اسمه أحمد و كنيته أبو محي الدين ، يقول إن عمره ثمانية و تسعون عاماً ، و يقول أقاربه أنه أصغر من ذلك .
لا يذكر شيئاً حتى عمره . فعل مرض "الزهايمر" فعله فيه .. نسي كل شيء ، و لكنه لم يفقد الأمل و لم يفقد الحقيقة .
تقول زوجته إنه لو رآها في الطريق لا يعرفها، هو فقط يعرف أنها زوجته لأنها تشاركه البيت الذي يعدّ فيه أيامه .
يتكلم.. يأكل.. ينام.. يقوم.. يمشي، و لكنه لا يتذكر. كل ما يتذكره هو أنه كلما كلم زوجته يقول لها : {يللا يا مرى قومي نروّح عَ البلد}.
نسي كل أيام الشتات و تذكر البلد {قريته في فلسطين}، تلك التي تركها باتجاه لبنان في ليلة ليلاء، في 19/11/1948، بعد انسحاب {جحافل!} الجيوش العربية.
هذا الرجل نسي كل شيء ، تذكر شيئاً واحداً – و هو في منزله في مدينة صيدا في جنوب لبنان – تذكر أنه يجب أن يعود ولا بد أن يعود، و بسرعة الضيف الذي أحس أنه أطال الجلوس و أثقل الزيارة، و أنه يجب أن يعود إلى بيته ليرتاح .
و من الطريف أن هذا الرجل التسعيني لا يدرك – عقلاً – لماذا يعتمر الحطة و العقال، و لا يحس بها و هي على رأسه، و لكنه يفتقدها حين يخلعها، و يسأل عنها، كأنها مزروعة على رأسه زرعاً .
هذه الحطة و العقال كفلسطين، قد لا يدرك عقل أحدنا و تحليلاته إمكانيات و أشكال و سبل العيش في فلسطين، و قد يقطع الأمل قلبه بأن يعود حياً إليها، لكنه في كلتا الحالتين يدرك أنها ليست بعيدة عنه و ليست مزروعة في عقله و قلبه فحسب، بل مزروعة فيه زرعاً .
و الفلسطيني بات لا يحتاج أن يبذل جهداً عقلياً أو قلبياً لفلسطين، فهي مزروعة فيه بالفطرة لا تحييها ولادة ثورة و أن كانت تنعشها، و لا يقتلها موت الثورة أو سقوطها في "الزهايمر" كما حصل مع صاحبنا .
و إن كان "الزهايمر" استطاع أن يقضي على ذاكرة هذا الرجل فإنه لم و لن يستطيع أن ينال مما زرع فيه.. فلسطين .
فلا تقتصر فلسطين على ذاكرة هذا الرجل الذي هو واحد من ملايين الفلسطينيين في الشتات، ففلسطين باتت هي الذاكرة الجماعية المتجذرة في تراب قلوب اللاجئين و المتسامية إلى فضاءات آفاقهم و عقولهم .
و تنسحب ظروف هذه القصة على الأدباء و الشعراء و الفنانين الفلسطينيين، فإذا عاينّا إنتاجهم {غير الوطني الثوري} لوجدنا أن فلسطين تسكن أو تنزرع في قصائدهم و موضوعاتهم و تجاربهم و حياتهم و صحوهم و نومهم.. و لرأينا في كل أغراض الشعر طيف فلسطين.
منقول من مجلة فلسـطين المسـلمة
و قد نقلت هذا الموضوع لأن حال هذا الرجل يشبه إلى حد كبير حال جدتي رحمها الله التي بلغت من العمر 95 عام ، فلم تعد تذكر من واقعها شيء ، نسيت أحفادها و أبناءها لكنها لم تنسى فلسطين و أيامها فيها ، و عادت بها الذكريات إلى بلدتها الحبيبة و أصدقاءها في تلك المرحلة .