أحدث المشاركات

بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 37

الموضوع: (( الدائرة ))

  1. #1
    الصورة الرمزية مازن لبابيدي شاعر
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Mar 2008
    الدولة : أبو ظبي
    العمر : 64
    المشاركات : 8,888
    المواضيع : 157
    الردود : 8888
    المعدل اليومي : 1.52

    Arrow (( الدائرة ))



    حدَّقَتْ إلى اللا شَيءَ بِعَينينِ ذاهِلَتينِ يُصارِعُ الدَّمعُ كِبْرياءَهُما لِيَنسَكِبَ كِحِمَمِ البراكينِ عَلى سَفْحِ جَبينِها قَبْل أَنْ يَغيبَ في مِخَدَّتِها التي تَحْمِلُ رَأسَها المُثْقَلَ بالأفكارِ والذِّكرَياتِ التي تَزاحَمَتْ على أَبْوابِ النَّفْسِ والرُّوحِ ، ولَمْ يَكُنْ كُلُّ ذَلك الصَّبيبِ لِيَفِيَ بِمَطْلَبِ قَلْبِها المُحْتَقِنِ جَمْرا وصَدْرِها المُحْتَبِسِ قَهْرا فكانت تُفْلِتُ كُلَّ حِينٍ مِنْ حَنْجَرَتِها المَبْحُوحَةِ صَرخَةٌ تَكادُ تُمَزِّقُ أَوْتارَها : لا .. لماذا ؟ .. آهخ .. آه .

    تَوالَتْ مَرّاتٍ عَديدَةً أَمامَها مَشاهِدُ الاسْتِبْدادِ والقَهْرِ اللَّذَيْنِ عاشَتْهُما وعانَتْهُما في حَياتِها مُنْذُ فارَقَتْ مُبَكِّرَةً طُفُولَتَها التي لا تَذْكُرُ مِنْها إلّا احْتِضَانَ أُمٍّ باكِيَةٍ شاكِيَةٍ وزَجْرَ أَبٍ عَنيدٍ شَديدٍ ، لِتَذْهَبَ بَعْدَها إلى قَلْعَةٍ مُظْلِمَةٍ مُخيفَةٍ عالِيَةِ الجُدرانِ ضَيِّقَةِ النَّوافذِ قَبَعَتْ في رُكْنٍ مِنْها دَهْرًا تُلَبِّي حاجاتِ سَيِّدِها الذي قَلَّما رَأَتْ منه ابتِسامَةَ رِضىً أو انتَظَرَتْ منه نَظْرَةَ عِرْفانٍ أو حَنانٍ.
    لَكِنَّ اللهَ أَذِنَ أَنْ يُشْرِقَ في حَياتِها التَّعِسَةِ بَدْرٌ أَضاءَ لَيْلَها وآنَسَ وَحْشَتَها وزَرَعَ البَسمةَ والأَملَ في وُجودِها البَغيضِ.
    كان لِرُوحِها بَلسما ولقَلْبِها بَهْجةً ولنَفْسِها رَاحةً ، ولجُروحِها بُرْءًا .

    فاضَ ثَدْياها مع اللَّبَنِ عاطِفَةً مُتَدَفِّقةً زادَتْهُ دُسُومَةً وغِذاءً ، ونَضَحَتْ عَيْناها مع الحُبِّ أَمَلا ورَجاءً سَكَبَتْها في مُقْلَتَيْهِ ، وجَعَلَتْ مِنْ تَرْنيماتِها وهَدْهَداتِها سِكينَةً وطُمَأنينَةً تَناغَمَتْ في أُذُنَيه.
    بَدَأَت شَيئا فشَيئا تَتصالحُ مع الحَياةِ وتَنْسى إساءاتِها وتَغْفِرُ لها أَفْعالَها .. وَلِمَ لا ؟ وَقَدْ أصبَحَتْ الحياةُ لها هي، أكثَرَ مِن غَيْرِها ، والسَّعْدُ واتاها والفَرْحُ صاحَبَها في يَومِها وليلِها .
    أَصْبَحَ فَوَّازٌ أَهَمَّ شَيْءٍ ، بَلْ كُلَّ شيء في حَياتِها ، طَعامُهُ ، نَظافَتُه ، فَرْحُهُ ، بُكاؤُه ، لَعِبُه ، مَدْرَستُه ، رِضاهُ ، غَضَبُه ... صارَ هُو المِحْوَرَ والأساسَ و .. كُلَّ شيء . ورُغْمَ أنها أنجَبَتْ بَعْدَه بَنينَ وبَناتٍ إلّا أَنَّ أيًّا مِنْهُم لم يَحْظَ بِمِثْلِ نَصيبِهِ مِنْها وحِظْوَتِهِ عِنْدَها ، حتى أبوهُ لَمْ يَعُدْ لَهُ في نَفْسِها ما كان مِنَ الهَيْبَةِ ، فَلَمْ تَعُدْ تَأْبَهُ كثيرا لِغَضَبِهِ وشِدَّتِهِ وانْقَلَبَ ضَعْفُها أَمامَهُ قُوَّةً وتَحَدِّيا وخُضُوعُها رَدًّا وتَمَرُّدًا أحْيانًا .. إنَّها الآنَ أُمُّ فَوَّاز !

    نَشأَ فوازُ فَتِيّا أمامَ عَينَيها اللَّتَين كانتا تُشِعَّانِ فَخْرا كُلَّما وَقَعَتا عَليه أو تَكَلَّمَتْ عَنْهُ وما أكثرَ ما فَعَلَتْ ، كان نَشِيطا مُفْعَمًا بالحياةِ والمَرَحِ ، قَويَّ الجِسْمِ ذَكيًّا ، حَسَنَ الهَيئةِ نَظيفًا أنِيقَ المَلْبَسِ ، بادِيًا عَلَيهِ حُسْنُ الرِّعايةِ والدَّلالِ وأَثَرُ النِّعْمَةِ والثَّراءِ . إلّا أنَّهُ مَعَ ذلكَ كان صَعْبَ المِراسِ عَنيدًا أنانيَّا مَغْرورًا، لكنَّ ذلك لم يَكُنْ لِيُقلِقَها وهُو يتوافَقُ مَعَ مُرادِها لَهُ في التَمَيُّزِ والتَّصَدُّرِ على غَيرِهِ .
    رَأَتْ فيهِ امتِدادًا عُضْوِيًّا وزَمَنِيًّا لِذاتِها ، مَشْروعَ حَياتِها الأكبرَ الّذي سَتُعَوِّضُ بِهِ ما فاتَها وتَنْتَصِرُ لِنَفْسِها مِنْ خِلالِهِ ، فكان كُلُّ ما يَبْتَغيهِ مُباحًا ، وكُلُّ ما يَكْرَهُهُ مُحَرَّما . لَمْ يَكُن أحدٌ يجرؤُ على إِزعاجِ شِبْلِ اللَّبُؤَةِ الشَّرِسَةِ ، وَقَدْ أدْرَكَ الطِّفْلُ بِفِطْرَتِهِ وذَكائِهِ مَوْقِعَهُ مِنْ أُمِّهِ وحِمايَتَها الَّتي يَتَمَتَّعُ بها فاستثمرَهُ أبْلَغَ استثمارٍ في الدَّارِ والجِّوارِ وحتى في المَدْرَسةِ التي كان يَهابُ مُدَرِّسُوها مِنَ السَّيِّدَةِ السَّليطَةِ اللِّسانِ .. أُمَّ فَوَّاز.

    في شَبابِهِ المُتَفَجِّرِ الصَّاخِبِ أصْبحَ فَوَّازٌ قُرَّةَ عَينِ والِدَتِهِ وأَمَلَها المُتَحَقِّقِ مُتَمَثِّلا أمامَها ، مَوضوعَ أحادِيثِها مع الناس ، مَثارَ فَخْرِها ومَبْعَثَ فَرَحِها ومَحَلَّ اعتِزازِها ومَوْطِنَ أمَلِها المُتَجدِّد.
    تَجَلَّتْ ذِرْوَةُ سُرورِها وهِيَ تُقَدِّمُ الحَلوَى والشَّرابَ لِلمُهنِّئين لها ابتِهاجًا بِحُصولِهِ على الشَّهادَةِ الثَّانَوِيَّةِ وتَفَوُّقِهِ فِيها ، نَجاحٌ آخَرَ لها ،لَمْ تَكُنْ تَحْلُمُ أَنْ تُحقِّقَهُ هِيَ ، تَراهُ اليومَ ناجِزًا في بِضْعَةٍ مِنْها .. وَلَدَها .

    هَدَأَتْ قَليلًا مَشاعِرُها التي تَعْتَلِجُ في صَدْرِها وهِيَ تَرى صُورَتَهُ الجميلةَ أمامَها بابتِسامَتِهِ السّاحِرَةِ وحُلَّتِهِ الزَّاهِيةِ التي زَيَّنتْ شابًّا يافِعًا يَطِيرُ فَوقَ الأرْضِ حَيَوِيِّةً ومرحًا ، واخْتَلَسَتْ ابتِسامَةٌ راجِفَةٌ لَحْظَةً مِنْ زَمَنِ الاكْتِئابِ الّذِي غَلَّفَ قَلْبَها .

    لَكِنَّ السَّعْدَ يَشُوبُهُ دائِمًا القَلقُ والخَوفُ اللّذانِ كانا يُكَدِّرانِ صَفاءَها كُلَّما خَرَجَ ابنُها أو تأخَّرَ في العَوْدَةِ ، وقد بَلَغَ الأمْرُ ذِرْوَتَهُ عِندما سَعَى وألحَّ في الحُصُولِ عَلَى رُخْصَةِ قِيادَةِ السَّيَّارَةِ والتي عَبَثًا حاوَلَتْ إقْناعَهُ بِتأجِيلِها ، ومَنْ يستطيعُ أَنْ يَرْفُضَ طَلَبًا .. لِفَوَّاز ؟

    مَعَ كَثْرَةِ خُروجِهِ وأصْحابَهُ وتَكَرُّرِ تَأخُّرِهِ في العَوْدَةِ إلى الدَّارِ ، أصْبَحَتْ أُمُّ فَوّازٍ تَعيشُ في جَحِيمٍ يَومِيٍّ حَقيقِيّ ...
    - بِرضَايَ عَلَيكَ يا وَلَدِي لا تَتَأخَّرْ عَنِ الدَّارِ مَرَّةً ثانِية ، أنْتَ تَعْلَمُ أنِّي لا أَقْدِرُ على النَّومِ قَبْل أن أطْمَئِنَّ عَلَيكَ ..
    - يا أُمَّ فَوَّاز .. أنَا لَمْ أعُدْ ذلك الطِّفلَ الصَّغيرَ المُدَلَّلَ الذي كان يَنامُ في حِضْنِكِ ، لقد صِرْتُ رَجُلًا ولي حَيَاتي وأصْحابي ، هَلْ تَرَيْنَ مِنَ اللّائِقِ لي أنْ أقُولَ لِأصْحابي عِندَ الثَّامِنةِ أنَّ عَلَيَّ أنْ أذهبَ لِلنَّوم ؟! هَلْ تَقْبَلينَ لابْنِكِ أَنْ يُصْبِحَ أُضْحوكةً بَينَ النّاسِ ؟!
    - يا حَبِيبَ أُمِّكَ ، لَمْ أَقُلْ ذَلكَ ولَكِنْ لَيْسَ كُلَّ يَوْمٍ ! ولَيْسَ إلى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ !
    - أرْجوكِ أُمِّي هَذِهِ حَياتي فَدَعِيني أعيشُها كَما أُريدُ ، ولا تَقْلقِي فَلَنْ تَأكُلَني الضَّبُعُ ..هههه.
    - لَيسَتْ حَياتَكَ وَحْدَكَ فَقَطْ ، هِيَ حَياتِي أيضًا ، أنْتَ ابْنِي ، أغَلَى ما أَمْلِكُ ، ألَا يَهُمُّكَ قَلقِي عَلَيْكَ وخَوْفِي ؟!
    - عُدْنَا لأُسْطُوَانَةِ الخَوْفِ والقَلقْ ! قُلْتُ لَكِ .. أنا .. لَسْتُ صَغيرًا ، لَمْ أَعُدْ كَذلِك ، فَدَعِيني أذْهَبُ للنَّوْمِ فأنا مُرْهَقٌ جِدّا !
    - آه .. حَسَنًا يا حَبيبي .. نَومَ الهَناء ، هَداكَ الله.
    حِوارٌ عَقيمٌ تَكَرَّرَ عَشَراتِ المرَّاتِ ، وكانَ يَزْدادُ حِدَّةً أحْيانا ، حَتَّى اعْتادَتْ أُمُّ فَوَّازٍ الأمرَ واسْتَسْلَمَتْ للتَّغَيُّرِ الذي لَمْ تَمْلِكْ أنْ تَمْنَعَهُ.
    ارْتاحَتْ قَليلا لِفِكْرَةِ أَنَّ التَغَيُّرَ كان طَبيعِيًّا وحَتْمِيًّا ورُبَّما لا دَاعِيَ لِأنْ تَلُومَهُ أو تُؤنِّبَ نَفْسَها عَلَيْهِ!
    - نَعَم هَذا طَبِيعِيٌّ ، لا يُمْكِنُ إيقافُ الزَّمَنِ .. الكَبيرُ غَيرُ الصَّغيرِ .. ليسَ مِنَ اللّائِقِ أَنْ أُعَامِلَهُ كَطِفْلٍ وَهُوَ رَجُلٌ مُكْتَمِلُ الرُّجولَةِ .. أَلَمْ يكُن هذا أمَلُكِ يا أُمَّ فَوَّاز ؟!

    لكن الذِّكرياتِ لم تُمهِلْها ولم تَترُكْ لِتلكَ الوَمْضَةِ المُريحَةِ فُرصَةَ الانْفِرادِ بِعاطِفَةِ الأمِّ المُتَسامِحَةِ الصَّفوحَةِ ، فالتَّبَدُّلُ لم يَقِفْ عند ذلك الحدِّ وما كان له أنْ يَقِفَ مع فوازٍ الذي لم يَعْرِفْ في حياتِهِ شَيئا اسمُهُ القُيودُ أو الحُدودُ التي يُمْكِنُ أنْ تُعيقَهُ ، فَقدْ أصبحَ يغيبُ مُعظمَ النهارِ في الجامعةِ ! ، ثُم يأتي لِيأكُلَ شَيئا ويَستعدَّ للخُروجِ والسَّهرِ والمرحِ مع أصحابِهِ ليلًا ، وبالطَّبعِ مُتَزوِّدًا بما يَزيدُ عن حاجَتهِ مِنَ المالِ الذي ما كانتْ لِتمنعَهُ عَنهُ بأيِّ حالٍ ، ثُم مَصحوبا بالكثيرِ من الأدعِيةِ والرَّجاءِ والتَّوسُلِ أنْ لا يَتأخرَ في العَودةِ إلى الدارِ للدِّراسةِ والرَّاحةِ والنَّومِ مُبَكِّرا وأن يَقودَ بِتَرَوٍّ وأن لا يَصْحَبَ أهْلَ الفِسْقِ والضَّلالِ ، وكان فوازُ يَستَديرُ مُنْصَرِفا وعلى وَجْهِهِ عَلاماتُ الامْتِعاضِ التي أصْبَحَتْ مع الوقتِ تَظهَرُ لها بِوُضوحٍ ويُرافِقُها التَّأفُّفُ مِنْ كَثرةِ تِلكَ التَّوصياتِ الطَّاعِنَةِ في رُجولَتِهِ واسْتقلالِيَّةِ قَرارهِ وفَهْمِهِ لأُمورِ الحياةِ ، وتُعَلِّلُ هِيَ نَفْسَها بِأنَّهُ ليس إلا طَيْشَ الشَّبابِ واستعجالَهُمْ ونَزَقَهُم وقِلَّةَ صَبْرِهِمْ .
    حاوَلَتْ كَثيرا أنْ تستعيدَ بِدِقَّةٍ اللَّحْظةَ الفَاصِلَةَ التي مَالَ صَبْرُها عَليْهِ فِيها إلى النَّفادِ ، عَسَى أنْ تَعْثُرَ بِالكلْمَةِ أو الإيمَاءَةِ أو التَّصَرُّفِ الذي أخْرَجَ الأمرَ بينهما عَنِ السَّيْطرة ، عَلَّها تَجِدُ ما تَغْفِرُ لَهُ بِهِ ما صَدَرَ عَنْهُ .

    تَأَخُّرُه عن الدار كان يزدادُ باضطراد وربما أَتَى مَعَ الفَجْرِ أو بَعْدَهُ ، ورائِحَةُ السَّجائِرِ تَفوحُ مِنْهُ أكثرَ فأكثرَ ولَمْ يُجَشِّمْ نَفْسَه يوما مَشَقَّةَ الاتِّصالِ بِها لِطَمْأنَتِها .
    وذاتَ لَيْلَةٍ كاد القَلَقُ أنْ يَقْتُلَها وهِي تنتظرُهُ وتُسْرعُ إلى النَّافِذَةِ كُلَّما سَمِعَتْ هَديرَ سَيّارةٍ مَارَّةٍ إلى أنْ غَلبها النَّومُ فَلَمْ تَنتبهْ إلّا والشَّمسُ ارتَفَعَتْ قَيْدَ رُمْحٍ ..
    لَمْ يَكُنْ فَوّازُ في غُرْفَتِهِ أو في الدَّارِ ..! إنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بَعْدُ . انتابَها رُعْبٌ شِديدٌ واستَوْلَتِ الوَساوِسُ عَلى رأسِها ، وراحَتْ تَتَّصِلُ بِكُلِّ مَنْ تَعْرِفُ مِنْ أصحابِهِ لَكِنَّ أغلبَهُمْ كانوا في دَوامِهِمُ الجَامِعِيِّ أو في أعمالِهِمْ ، وبعضُهم لَمْ يَزَلْ نائِمًا ، لكن أحدًا لم يَرَهُ تِلكَ اللَّيلةَ .

    جُنَّ جُنونُ أُمِّ فوازٍ وانطَلَقَتْ مِنْ فَورِها إلى الجامعةِ حَيْثُ أكَّدَ لها مَنْ يَعْرِفُهُ أنَّ فَوازًا لَمْ يَحْضُرْ إلى الجامعةِ منذ أسبوعٍ أو أكثرَ !
    كانَتِ الصَّدْمَةُ قاسِيَةً وأُسْقِطَ في يَدِها وأوْشَكَتْ على الانهِيارِ ، وعادَتْ إلى الدَّارِ مُحْبَطَةً تُكَلِّمُ نَفْسَها ..
    - تَكْذِبُ على أُمِّكَ يا فَوَّاز ؟!
    - أَهذه آخِرُ تَربِيَتي لَك ؟!
    - أيْنَ تَذْهَبُ ؟! مَعَ مَنْ ؟!
    - لماذا يا فواز ؟! لماذا يا ابن بَطْني لماذا ؟!

    يَومٌ طَويلٌ أَكَلَ مِنْ عُمُرها سَنَةً ، عاد في آخرهِ فواز وكأنهُ لم يَغِبْ ساعةً عَن البَيتِ ، لِيَجِدَ ولِأوَّلِ مَرَّةٍ في عُمْرِهِ أمًّا غاضِبَةً مُزَمْجِرةً تَصْرُخُ في وَجْهِهِ مُؤَنِّبَةً مُوَبِّخة !!
    كان ذلك مفاجأةً ثقيلةً لَمْ يَعْهَدْها ، وبَدَلَ أنْ يَرْجِعَ إلى الحَقِّ ويَتَمَلَّكَهُ تَأنيبُ الضَّميرِ ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ العِزَّةُ بِالإثْمِ فاستدارَ إلى والدَتِهِ ثائِرًا جائِرًا قاطِبًا مُعَنِّفًا ، يَهُزُّ في وجْهِها سَبَّابَتَهُ..
    - إِسْمَعِي ..لَقَدْ سَئِمْتُ مِنْكِ ومِنْ تَدَخُّلِكِ في كُلِّ صَغيرَةٍ وكَبيرةٍ في حَيَاتي !
    - قُلْتُ لَكِ ألْفَ مَرَّةٍ ومَرَّة .. إنَّني لم أَعُدْ صَغيرًا !
    - لَقَدْ أصْبَحْتُ رَجُلًا ، هَلْ تَعْلَمينَ ما مَعْنَى رَجُل ؟ أنا رَجُلٌ وسأفْعَلُ ما أُريدُ ، ولا أُريدُ مِنْكِ أنْ تُكَلِّميني بَعْدَ اليومِ في مِثل هذه الأمورِ ، أتَفْهمين ؟!
    - أنْتِ فقط أُمِّي ولسْتِ وَصِيَّةً على حَيَاتي وقَراري ، هيا جَهِّزي ليَ الطَّعامَ فَأنا أتَضَوَّرُ جُوعًا !

    كانَتِ الكَلِماتُ تَقَعُ على قَلْبِها كالمطارِقِ تَسْحَقُهُ سَحْقًا ، أُلْجِمَ مَنْطِقُها ، تَحَطَّمَ في داخِلِها أشياءٌ كثيرةٌ ، جَحَظَتْ عَيْناها وتَجَمَّدَ وَجْهُها وَهِيَ تَنْظُرُ إِليْهِ ..
    - نَعَمْ .. لَقَدْ نَما العُودُ إِذَنْ واسْتَوَى واشْتَدَّ وصَلُب.
    - كُلُّ ما في الأمرِ إِذَنْ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ بَلَغَ تَمامَهُ ..
    - لقد صَنَعْتِ يا أُمَّ فَوَّازٍ .. مُسْتَبِدًّا جَدِيدًا

  2. #2
    الصورة الرمزية عبد السلام هلالي أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2012
    الدولة : المغرب
    العمر : 42
    المشاركات : 983
    المواضيع : 44
    الردود : 983
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مازن لبابيدي مشاهدة المشاركة


    كانَتِ الكَلِماتُ تَقَعُ على قَلْبِها كالمطارِقِ تَسْحَقُهُ سَحْقًا ، أُلْجِمَ مَنْطِقُها ، تَحَطَّمَ في داخِلِها أشياءٌ كثيرةٌ ، جَحَظَتْ عَيْناها وتَجَمَّدَ وَجْهُها وَهِيَ تَنْظُرُ إِليْهِ ..
    - نَعَمْ .. لَقَدْ نَما العُودُ إِذَنْ واسْتَوَى واشْتَدَّ وصَلُب.
    - كُلُّ ما في الأمرِ إِذَنْ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ بَلَغَ تَمامَهُ ..
    - لقد صَنَعْتِ يا أُمَّ فَوَّازٍ .. مُسْتَبِدًّا جَدِيدًا
    وهذا دأبنا في صناعة الجبابرة.
    ارتشفتها في لهفة كمن يشرب بعد أمد من العطش، وبي رغبة طفولية أن لا يسبقني أحد إلى التعليق.
    رائعة بقسوتها ونهايتها الحكيمة التي تعود بنا إل البداية الأليمة، وكأن الحكمة لا تولد إل من قساوة الأيام.
    جمال هو أكبر من يقول فيه مثلي غزلا، لذا أكتفي ب " أعجبتني جدا' وأمر تاركا باقة تقدير واحترام
    اللهم اهدنا إلى ماتحبه وترضاه

  3. #3
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.86

    افتراضي

    مسكينة أمّ فوّاز ... لقد ذهب تعبها أدراج الرّياح ...
    هو العقوق الذي يقتل الأمّ أو الأب لولا جبلة المحبّة والتّسامح التي جبل عليها قلب الأمّ
    قصّة رائعة بمبناها الاسترجاعي وفكرتها وحبكتها
    بوركت أخي الدّكتور مازن
    تقديري وتحيّتي
    للتّثبيت تقديرا واستحقاقا

  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2012
    الدولة : المغرب
    العمر : 53
    المشاركات : 72
    المواضيع : 1
    الردود : 72
    المعدل اليومي : 0.02
    من مواضيعي

    افتراضي

    الفكرة متداولة وكثيرة هي الأقلام التي حلقت في ساحتها، لكن لعزفك عليها لحن مختلف.
    جميلة وقاسية اجتمعت فيها البداية بالنهاية لتشكل العنوان.
    تحيتي واحترامي.
    حسبي أن أكون قلم حق

  5. #5
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 391
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.15

    افتراضي

    كانت الدائرة محكمة وماأثمرت بعد رحلة طويلة حول محيطها سوى نسخة أصلية لمستبد كبير
    رغم تعاطفي معها وماعانته إلا أنني لاأعفيها من انتاج نموذج سيء بيدٍ أول مافلت منها طرق عليها بقسوة
    نص رائع بكل مافيه فكرة وسرد وحبكة قوية وخاتمة صادمة
    يستحق التثبيت وإدراجه ضمن المجموعة القصصية للنشر
    دام ألقك د. مازن
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.74

    افتراضي

    فيما غطى ربع مساحة النص تقريبا كانت أم فواز في رؤية القارئ القائمة على ما هو مقدم إليه جريحة مظلومة حظيت بتعاطف كبير وتبنٍ لا إرادي لحقها في ان تعيش بكرامة واحترام لإنسانيتها المقموعة، وفجأة وبقدوم فواز كان لدينا انقلاب عنيف تنمّرت فيه القطة واكثر، فظلمت وجارت وصنعت من الفتى متجبرا لم تنصف منه حتى إخوته .
    حتى أبوهُ لَمْ يَعُدْ لَهُ في نَفْسِها ما كان مِنَ الهَيْبَةِ ، فَلَمْ تَعُدْ تَأْبَهُ كثيرا لِغَضَبِهِ وشِدَّتِهِ وانْقَلَبَ ضَعْفُها أَمامَهُ قُوَّةً وتَحَدِّيا وخُضُوعُها رَدًّا وتَمَرُّدًا أحْيانًا .. إنَّها الآنَ أُمُّ فَوَّاز !
    فكان السؤال الملحّ ...
    إذا كانت هي استمدت من وجود فواز في حياتها قوة نالت بها ما نالت من سلطة ، فما الذي أضعف الأب وقد رأيناه في بداية القصة قويا جبارا؟

    مهارات قصية مائزة وتمكن من أدواتك أمسكت به زمام القول تشكل رموزه وتقولب دلالاته، لتتعدد القراءات في نص لبس حلّة اجتماعية، يخفي وراءها إسقاطات سياسية عميقة وقوية
    وبلغة بهية وسرد شائق شدنا للنص حتى حرفه الأخير، تابعنا انفلات الصنيعة من عقال الصانع، وتمرد الفتى على القيم والمثل بتدريج وصل به في شبابه للتمادي على من منحه سلطته وملّكه قوته

    باهرا كنت هنا أديبنا الكريم

    أهلا بك ومرحبا في واحتك

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.01

    افتراضي

    أخي الحبيب ، الأديب القدير الأستاذ مازن
    صبّحك الله بالخير ومسّاك
    وأنا أقرؤها بهذه اللغة البليغة المُدلّلة ، وبهذا السرد العفويّ المتحرر من قيود التلاعب بالزمن تأخيراً وتقديماً ، وبهذه اللمسات الاجتماعيّة الخُلُقيّة ، ثمّ بهذا التقرير الواضح الفاضح لما يُريد الكاتبُ من قصّته من عبرة التدليل الغامر وأثره على الأولاد والمجتمع ...بهذا كلّه كانت تهبّ عليّ ( نظرات) و(عبرات) المنفلوطيّ رحمه الله .. ذلك الكاتب المبدع ، مربّي الأجيال بقلمه !
    ولكنّك - أيها الفذّ - بززته بالصور البيانيّة الباهية ، وكان أسلوبك أكثرَ استرسالاً منه .
    كان لحديث النفس - المنولوج - الذي أجريتَهُ على شخصية الأم دورٌ كبير في الكشف عن ملامحها النفسيّة .
    تحياتي وتقديري
    ودمتَ بألف خير
    اللهمّ لا تُحكّمْ بنا مَنْ لا يخافُكَ ولا يرحمُنا

  8. #8
    الصورة الرمزية ياسر ميمو أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2011
    المشاركات : 1,269
    المواضيع : 90
    الردود : 1269
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    وعليكم السلام



    حقيقة لم أعرف ما أقول بعد انتهائي من قراء ة هذه المأساة الانسانية


    العقوق مسألة بالغة الصعوبة على الوالدين قبل الأبناء


    نص يضرب على أوتار الانسانية المعذية على يد من تحب



    نص يستحق كل التحية والتقدير والامتنان



    والشكر موصول لمن سلط الضوء على هذا النص عبر التثبيت




    أيامك رضا وسعادة

  9. #9
    الصورة الرمزية مازن لبابيدي شاعر
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Mar 2008
    الدولة : أبو ظبي
    العمر : 64
    المشاركات : 8,888
    المواضيع : 157
    الردود : 8888
    المعدل اليومي : 1.52

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد السلام هلالي مشاهدة المشاركة
    وهذا دأبنا في صناعة الجبابرة.
    ارتشفتها في لهفة كمن يشرب بعد أمد من العطش، وبي رغبة طفولية أن لا يسبقني أحد إلى التعليق.
    رائعة بقسوتها ونهايتها الحكيمة التي تعود بنا إل البداية الأليمة، وكأن الحكمة لا تولد إل من قساوة الأيام.
    جمال هو أكبر من يقول فيه مثلي غزلا، لذا أكتفي ب " أعجبتني جدا' وأمر تاركا باقة تقدير واحترام
    أخي عبد السلام هلالي
    شكرا لطلوعك في سماء صفحتي مستهلا المشاركات الكريمة
    أنت كبير يا أخي بخلقك وأدبك وجمال روحك الذي يستشف من كلماتك الطيبة
    شكرا للإطراء المغدق

    تحيتي وتقديري
    يا شام إني والأقدار مبرمة /// ما لي سواك قبيل الموت منقلب

  10. #10
    الصورة الرمزية مازن لبابيدي شاعر
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Mar 2008
    الدولة : أبو ظبي
    العمر : 64
    المشاركات : 8,888
    المواضيع : 157
    الردود : 8888
    المعدل اليومي : 1.52

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    مسكينة أمّ فوّاز ... لقد ذهب تعبها أدراج الرّياح ...
    هو العقوق الذي يقتل الأمّ أو الأب لولا جبلة المحبّة والتّسامح التي جبل عليها قلب الأمّ
    قصّة رائعة بمبناها الاسترجاعي وفكرتها وحبكتها
    بوركت أخي الدّكتور مازن
    تقديري وتحيّتي
    للتّثبيت تقديرا واستحقاقا
    الأديبة المبدعة الكبيرة الأستاذة كاملة بدارنة
    ثبت الله قلبك على الحق والإيمان
    أعتز برأيك وإطرائك أختي
    لو يدري الأبناء ما في العقوق من شر وما يستجلب من غضب الله لما رفت لهم عين بين يدي آبائهم وأمهاتهم .

    تحيتي الكبيرة وتقديري

صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الدائرة العروضية السادسة ( دائرة مستحدثة ) ما رأيكم ؟
    بواسطة عادل العاني في المنتدى العرُوضُ وَالقَافِيَةُ
    مشاركات: 76
    آخر مشاركة: 28-09-2020, 02:49 PM
  2. الدائرة العروضية السابعة
    بواسطة عادل العاني في المنتدى العرُوضُ وَالقَافِيَةُ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 22-08-2020, 12:02 AM
  3. الدائرة......
    بواسطة نوال البردويل في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 02-03-2016, 06:56 PM
  4. الدائرة المغلقة
    بواسطة سعاد محمود الامين في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 04-12-2015, 07:45 PM
  5. بيان من الدائرة الإعلامية القيادة العامة للمقاومة العراقيه
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 23-12-2003, 04:24 PM