// حياةٌ على الأطلال // ;
أنا أدرك أنَّ الديار التي ينعق فوقها الغراب , ما هي إلا " أطلالاً " , غنّتْ عنها " أم كلثوم " ما يكفي , عندما صار الفجر الذي ينتظره الجميع مجرد حريق , حريقٌ لا يترك وراءه سوى رمادٍ مصيره أنْ تهبَّ عليه رياح الزمن, فتسرقه إلى حيث تدفن الأمجاد في مقابر النسيان.
وأدرك أنَّ الأيام .. تلك التي دعتنا " وردة الجزائرية " إلى احتضانها , في أغنيتها الشهيرة تلكْ , ما هي إلا مسرحاً , عليه تُمارَسُ أبشع رسالات الإنتقام.
وأدرك أنَّ الليالي .. لا تترك للإنسان , سوى بعض الجراح التي تمرّ على خاطره عن ذكرياتٍ مضتْ , ومخاوفٍ من مستقبلٍ سيحين .
وأدرك أيضاً .. أنَّ همسات الليل التي ترافق دوماً دروب البؤساء , تأمرهم أن يغادروا إلى الأبد أحلامهم الجميلة , تفرضُ عليهم أن يعيشوا كوابيس الرعب الذي أعلم بشكل كاملٍ أسراره .. أسراره هي أن يحلم الإنسان حلماً أكبر منه , وأكبر من ثقته في حقيقة الوصول التي ذات يوم ستتلاشى مع جميع الأنوار, ومع جميع الطيور التي لا تعرف سوى أن تغرد أنغام الحزن الأزلية.
وكنتُ قد علمت من ذلك الزمن , الذي كُنّا فيه نُجيد البسمة , أنّ الحياة تُصبح بلا معنى , وبلا أيّةِ قيمة , عندما تتصادم فيها أوهام السعادة مع حقائق البؤس والشقاء ; مُعلنة أنّ الخيبة هي القدر المحتوم لكلّ من دانت احلامه عنان السماء, في محاولة منه لإثبات أنّ ما كانْ , ليْسَ بالضرورة أن يكون صِنْواً لكلّ ما يمكن له أنْ يكون .
أمورٌ .. لمْ يكنْ من الصعب على المتأمل اكتشافها , لو كان قد امتلك الجرأة على مواجهتها. ذلك أن اليقظة , ليستْ أكثر ولا أقل , من لحظةِ شجاعةٍ يقف فيها المرء عارياً أمام نفسه , فاتحاً فيها كتاب العمر بحلوه ومره ..رافعاً من شأن ذاته في المواطن التي أصاب بها .. جالداً إيّاها في تلك التي تعاطى معها بكل رعونة الحمقى.
لذا ; كثيراً ما أسأل نفسي في لحظات الخلوة التي تزورني : إلى أين اسير .. ومتى سأبلغ ما أريد .. وقبل كل ذلك , ماذا أريد .. ماذا عسى زورق صنعته من أغصان شجرة خضراء , أغصانٌ تُشبه برمّتها أحلامي الشاعرية المسافرة مع سلامات الرحيل .. ماذا عساه زورق كهذا , أن يبلغ من جُـزر الأمل التي ينشدها ابن آدم منذ خُلق .. وإلى أين , إلى أين سيقودني زورق كذاك .. وكم تُراه سيقطع من مسافات الأماني , وَسْطَ أعاصيرِ زمنٍ هوجاء .. أعاصيرٌ لم تترك لبحّارٍ إلا حطاماً , لن يجد بين ثناياه قطعةً يركبها ,تقوده إلى شواطئ النجاة .
نظرتُ حولي .. ما استطعت أن أرى إلا قلوبا لم تجد في وَسْطِ الطريق , إلا أشواكاً تأمرها أن لا تستمر .. قلوبٌ , دوماً , تبحث عن طريقِ رحيلٍ تـُـقِـلّـها لا تعلم إلى أين .
حقاً .. أنا لا ادري إلى أين يريدون الرحيل , ولا ادري إن كان أحدهم قد وضع لنفسه روضاً , يطمحُ ذات يوم أن يضمّ وروده ؟!..
لا أدري .. حقيقة لا أدري .
كلّ ما أدريه.. أنّ الشيء الوحيد الذي استطعتُ الوصول إليه , هو قصورٌ ظلماء .. تطاولت من حولها أشجار غامضة , وورودٌ تشبه تماثيل الأشباح التي غنّى عنها " عبد الحليم " كثيرا في رائعته الشهيرة تلكْ .. قصور مرصودة , تلعب فيها هواجس مرعبة .. تماماً كالتي ترافقني في ساعات الخلوة .