يا رجل...
لا ينفضِحُ الواحدُ منا بكلماته، وإنما بعينيه. فأمام نصفنا الثاني نُسَلِّمُ مفاتيحَ المدن كلها بعينين منذهلتين به، ولسان لا ندري متى ابتلعناه أثناء بحثنا عن صوتنا المُضاع.. لأننا لا نكاد نصدق حقا أنه أخيرا يقف هنا، على بعد نظرتين نسْتَرِقُهما خُفْيَةً وشِبْهَ همس، وأنَّ الله سبحانه أوجده في هذه الدنيا كي نلتقي به.. كي تنشغل به حواسُّنا.. كي نَستدِل به علينا.. كي نؤمن به، معه، ولأجله، أن حياتَنا لن تكتمل إلا به.. كي نُصَدِّقَ بيقينٍ وعنادٍ أنه هو حياتُنا. أصْدَقُنَا إذن ليس من يتقنُ الكلامَ بحرصٍ كبيرٍ على أن يَظلَّ مُقنِعاً، وإنما من يُتقن النظرَ بعفويةٍ وبراءةٍ طفولية.
لهذا، إذا بَكَتْ امرأةٌ جرحتَها أنتَ.. امرأة تعني لك كل شيء.. امرأة تتخيلها دوما معكَ، حتى ما عدتَ تتخيلها إلا معكَ... لا تنس نفسكَ وأنتَ تَهُمُّ بمسحِ ما تساقط على خديها، فدموعُها كلُّها وُلِدَتْ بعينيكَ. لقد جَرَحْتَ نفسَكَ أولاً... كيف لكَ أنْ تبكي وحدَكَ دُونَ أن تبكيها معك؟ وكيف تقنعها أنكَ ما بين بقائك معها والرحيل، اخترتَ الثاني فقط حتى لا تجرحَها مرة أخرى؟ ادع الله لها بالأجمل دوما، وقُل في غيابها : إني – والله – لم أقصد.
أجل، في غيابها، قُلْها في غيابها.. ذلك أنها امرأةٌ تَظَلُّ علاقتُـكَ بها محكومةً بحالات الحصار وحظر التعارف، وتبقى كلماتُكما مهربةً سرا كمنشور انقلابٍ تخشى أن يتَّهمكما به الآخرون. حتى تبادُلُ التحية، ذلك الشيءُ البسيطُ الساذجُ، تُدرِكُ أنه صار مغامرةً جريئةً لا تَأْمَنُ عشراتِ العيون المتلصصة بكل انفضاح.
سيدة النساء، وسيدة الغياب، وسيدة الخجل...
سيدتي.. كيف نكتب لبعضنا كلماتٍ دون أن يقرأها غيرُنا؟
في عيدِ ميلادك الذي لم يَحِنْ بعدُ، ما أزال ذياكَ الرجل الذي لا يتمنى لك شيئا مميَّزا.. لا لأنه نَسِيَ، لكنْ لأنه تَعَوَّدَ الاحتفالَ بكِ دوما، كلَّ يوم، على مدار العمر، ما مضى منه وما سيأتي...
في الحياة انشغالٌ بالأحلام، بالطموحات، بقياس الزمن والمسافات، حتى لَنَنْسَى أو نكاد تلكَ التفاصيل المُهمَلة المركونة في ركن قَصِيٍّ من الذاكرة، تلك التفاصيل التي في غفلة منا – خِلْسَةً - تَكْبُرُ وتكبر و.. وسرعان ما تستحوذ علينا.. وسرعان ما نكتشف أنها منذ البدءِ كانت الاسمَ الآخرَ للأحلام والطموحات.. وللحياة. بعد كل هذا، ورغم كل هذا تقولين "لا تنسني من دعائِكَ"... بعضُ النسيان لا سبيلَ إليه لو تدرين.
سيدتي.. على قَدْرِ ما يصنعُه بي حضورُكِ يصنعُه غيابُكِ: رعشةُ خوف، رعشةُ قلق، وإحساسٌ بالضياع.. رعشةُ خوف مِن فقدانِكِ وقتما تكونين معي، رعشةُ قلق على ما قد يَحلُّ بكِ بعدي، ضياعي بين الرعشتين كطفلٍ فقد أمَّه، ورجُلٍ فقد أنثاه، وأبٍ فقد طفلتَه. معكِ، ظَلَّ القلبُ يشغلُه اللعبُ بالنار من أول الصِّبا حتى آخر الشيخوخة، دون أن يَبْلُغَ أشُدَّهُ رَجُلاً في أوْسَطِ العمر.
الأجملُ هو أجملُ حتى مِن أن نستطيع تخَيُّلَه، ولذا دعيني اليوم أخبركِ سِرّاً صغيرا تعرفينَه عني مُسبقا : وأنتِ بعيدة، وأنا بدونِكِ، ما عُدْتُ أذكرُ من أبناء كنتُ سأُنْجِبُهُم منكِ سوى أسمائِهم، تلك الأسماء التي اخترناها معا، للبنين والبنات على سواءٍ، بذاتِ القَدْرِ من الانتظار واللهفة والحنين وصدق الأمنيات: رميساء.. أدهم.. ريان.. حنين.. رحاب.. ميلاد.. أمل.. أماني.. وليد.. نسيم.. واسمك... ذلك أنكِ امرأةٌ لابُدَّ أن تتكرر في أكثر من أنثى، في ابنتي، في حفيدتي، وفي النساء إلى يوم القيامة.
عيد ميلادكِ إذن، وهاهو ذكرى لفراقٍ آخر. تعوَّدي شيئاً من النسيان، فربما لا أكون حاضراً في احتفالِكِ القادم.
كلُّ عيد وكلُّ أيامكِ عيد يا نجمة.