درس
اسمح لي سيدي النائب المحترم، أن أقدم اعتذاري لشخصكم الموقر عما ارتكبته من حماقات وأخطاء مهنية جسيمة، عندما ركبت طيش ربيع هذه السنة واقتفيت آثار بعض الفوضويين الحالمين، فقررت أن أقوم بثورة سلمية مؤدبة ضد السيد المدير المبجل. لا أعرف كيف خطرت على بالي هذه الفكرة ال... ربما كنت تحت تأثير بعض المواد الدستورية المنومة، فهذا الدواء في نسخته الجديدة المنقحة المعدلة تجعل الانسان يتوهم أشياء غريبة ومضحكة. أو ربما أفرطت في مشاهدة أخبار الثورات على بعض القنوات المغرضة التي تزيف الأخبار وتصنع من الحبة قبة . متجاهلا قنواتنا المحترفة الغارقة في المصداقية والرائدة في التربية على قيم المحبة و التسامح والتعايش و.... واحترام القانون..
وقد يكون السبب تجرعي الكثير من فناجين الظلم، التي كان السيد المدير المحترم يقدمها لي (بحسن نية طبعا) على جرعات حتى لا أحس بمرارتها.
عندما لملمت جروحي و أوراقي البلهاء التي تختزن في حبرها مرارة قهوة السيد المدير وتفاصيلها، ظننت أنها كفيلة بالإطاحة به من على عرشه وربما ارساله إلى ما وراء الوظيفة . تأبطت أوراقي وسرت إلى مكتبكم الموقر حالما بالقصاص ، حتى إني أشفقت على المسكين مما ينتظره. كم كان الحمق يلبسني !
لقد أدركت الآن فقط ، لماذا أنتم نائب الوزارة وأنا مجرد رقم مالي يثقل كاهل الدولة، وأدركت أن الفرق بيننا يوثق لبعد السماء عن الأرض، ليس فقط من ناحية تحصيلكم العلمي والأكاديمي ومساركم المهني الحافل بالانجازات،أوخبرتكم الطويلة في إخماد نيران الفتنة. وإنما فهمكم العميق للدستور والقانون وتشربكم لدروبه الخلفية واستثناءاته.
اعتقدت واهما، أن السنوات العديدة التي قضيتها صعودا إلى قمم الجبال الملتحفة بعمامة الجهل والأمية، متسلقا درجات سلم مهترئ. والمسافات الطويلة التي قطعتها ذهابا وجيئة إلى الفصول، كفيلة بالسماح لي – في إطار حركية الأجيال- بالانتقال إلى مجموعة الراشدين العارفين بخبايا الوظيفة وقواعد ألعابها . لأكتشف الآن أني لا زلت حبيس مراهقة ثورية.
لكن اعذرني سيدي النائب المبجل، فالذنب ليس علي وحدي، بل يشاركني فيه أولئك الذين لقنوني أبجديات القانون والحروف الأولى في كراسة التشريع.لقد شحنوا دماغي بأفكار بالية من قبيل أن جميع الرقاب سواسية تحت سيف القانون؛وأن القانون مثل الله لا ينظر إلى أسمائنا و ألقابنا أو حتى هيئاتنا .
كل هذا لأكتشف الآن – والفضل لسيادتكم- أن القانون مثلنا يحب التعرف إلى الناس، ويسألهم عن أسمائهم وأنسابهم وأحوالهم وأرصدتهم وأملاكهم، ليعامل كل شخص المعاملة التي تليق به.
كم كان إعجابي كبيرا عندما رأيت لباقته، وطريقته الرائعة في احترام المقامات والقامات والمكاتب. وعلى ذكر المكاتب فقد كنت بين الفينة والأخرى أجري مقارنة سريعة بين مكتبي البسيط الأعرج الشاحب المغطى بأخطاء التلاميذ والتي لا أملك إلا الصفح عنها والاستمرار في محبتهم. وبين مكتب السيد المدير المحترم، الطويل العريض المرتب المليء بالأوراق والدسائس، ما علمنا منها وما لم نعلم؛ ما فعلنا وما لم نفعل.
لم أكن أتوقف كثيرا عند هذه الاختلافات ، أقول لنفسي : لكل منا مكتبه بحسب عدد ملفاته.
وحتى عندما زرتكم سيدي النائب ، أعجبني كثيرا مكتبك الكبير الأنيق اللامع وكرسيك الأثير، لم أعتبر ذلك من باب الفوارق الوظيفية، بل اعتبرته من طبيعة مهامكم الجليلة. لأن شخصا عظيما مثلكم يجب أن يجلس وراء مكتب بحجمه.
كنت مخطئا عندما لم أعر موضوع الفوارق المكتبية ما يستحقه من الاهتمام ، ولم أدرك جسامة خطئي، إلا عندما رأيت كيف يتصرف سيدي القانون أمام مكتب كل منا. رأيت كيف ينزل بكامل ثقله ويهجم بكل بنوده على مكتبي الهزيل حتى يكاد يهشم أضلعه. فلا يملك المسكين إلا أن يكتم أنينه. ورأيت كيف يجامل ويحابي مكتب السيد المدير المحترم وكيف ينحني عند مكتب السيد النائب المبجل. ثم كيف يقف ساعات على باب مدير الأكاديمية المعظم ، قد يحظى بمقابلة وقد يصرف إلى أجل غير مسمى. أما سعادة الوزير فلم تتح لي الفرصة بعد لأرى....
أدهشني كثيرا قولكم سيدي النائب عندما صرختم في وجهي "المدير هنا بقوة القانون". تساءلت إن كان للقانون كل هذه القوة ، فما الذي يمنعه عن السيد المدير؟ أردت أن أجهر بسؤالي هذا، لكن صوتكم كان أقوى من عزيمتي، فابتلعت ريقي وسؤالي وربما حتى لساني.
وعندما صرخت في وجه زميلي بفرنسية 'دوكولية' هذه المرة "أنت لست سوى مجرد موظف !! " دهشت أكثر. فقد كنت أعتقد أن المدير المحترم والنائب المبجل و... هم أيضا مجرد موظفين.
لكم جزيل الشكر سيدي النائب على الدرس القيم الذي فهمته وحفظته جيدا، لكني أعتذر منكم فلن يكون بإمكاني تدريسه لطلابي.