دَجاجةٌ بيّاضَة
"لَميس" مُدرّسةٌ عانسٌ ، أكملتْ عدّ الثانيةِ والخمسينَ من عُمُرِها ، وفي غربتِها عدّتْ عشرينَ ســــنةً .. حتى الآن ! تعيشُ وحدَها في بيتٍ صغيرٍ يُودّع الحياة بأقصى المدينة ! لا تُفكّرُ في الانتقالِ منه أبداً ؛ للمبلغ الزهيد الذي تدفعه أجرة له ؛ ساكتةً عن أبوابٍ سكرانة ، وحنفيّاتٍ مخنوقة ، وسقفٍ عجوز ومرافقَ بلغتْ أرذلَ العمر ، وغرفةٍ بينَها وبينَ الشمسِ قطيعة منذُ بُنِيَتْ !
كلّ من يعرفها يعلمُ كم هي مُتعَبَة في عملِها بالمدرسة الثانويّة الكبيرة التي يمتدّ دوامُها حتى قُبيل العصر ! تغادر المدرسة بسيارتها ( الغولف ) الصغيرة التي لا يدور محرّكها إلاّ بعدَ معاندةٍ وصـراخ فقد تعبَ جداً من إهمالِها المستمرّ له عبرَ السّنين ! وتقصد السوقَ القديمة لتباشر ما تحتاجه فهي لا تثق ( بالســوبّر ماركـت ) القريب من بيتها ، ولا بمكيالِه ، ولا بأسعاره !! ثم تتغدّى ممّا أعَدّتْهُ ليلاً على عُجالة ، ومن ثَمّ تقصدُ مركزَ تعليم الكبار المسائيّ ؛ الذي تتشبّثُ به تشبّثَ السحليةِ العجوز بغصنِ الشجرة الضعيف الدقيق ! و لا تزال تتزلّفُ كلّ عام ليُبقوها مدرّسة فيه ، رغم المبلغ البخس الذي يعود عليها منه !
ثمّ يأتي عليها الليلُ بجولاتٍ مكّوكيّة للدروس الخاصّة ، من بيتِ طالبةٍ لبيتِ أخرى فأخرى !! أمّا قُبيلَ الامتحانات وفي أثنائهــا فلميسُ تعيــشُ على ( السندويش ) .. لأنّ وقتَها ضيّقٌ جدّاً جدّاً ، وما شئتَ من جِدّاً !
وقدْ أجّلتْ حجّها سنةً بعدَ سنةٍ ؛ حتى ارتفعتْ أسعارُهُ ، وبلغتْ تكاليفُهُ حدّاً جعلها تُحجمُ حتى عن التفكيرِ به !
وأمّا في أيّامِ العُطلِ والإجازات والأعياد ؛ فتقضيها ( الأبلة لميس ) نوماً مديداً مُنسرِحاً طويلاً تهربُ به من دقّات الساعة !! وكانت كلّما نصحها أحدُهم بقضاءِ تلك الأيام أو بعضِها أو العيديّْنِ منها على الأقلّ في بلدِها وبينَ أهلِها ؛ تستحضرُ مكتب السفر وتكاليفَ الرحلة ومصاريفَها ، فيمتقعُ وجهُها من الفزع ،و يَنتقع من الهَلع ، وتأخذ باختراع الأعذارَ !!
أكرهُ ما تكرهُ "لميس" الحديثُ عن العُمر والموت والآخرة .. وأن تقع عينُها على واحدة من تلك اللافتات الإعلانيّة المنتشرة على جوانب الشوارع الرئيسيّة التي تحثّ على التبرّع للمحتاجين ، وعلى كفالة الأيتام ، وعلى الصدقة الجارية !
في بلدِها ، أخوها ( شفيق ) – الذي لاتكفّ عن الدّعاءِ له – اشترى لها بستانَ تُفّاح ، وسوّره لها بأشجارِ السّرو ، وبنى لها فيه أربعَ غُرف مع المرافق ، وكلّها ( ديلوكس ) ، ورصفَ لها أمامها فُسحة كبيرة وجهّزها لها بمراجيح ، وألعاب هزّازة ، ودوّارة ، وبركة ماء مع نافورة تعلو أربعة أمتار ! واشترى لها في قرية ( سحاب ) المصيف الجبلي الساحر شقّةً ، صُممتْ لتسعَ أربع أسرٍ كبيرة وجهّزها لها أيضاً أحسنَ تجهيزٍ ، وفرشها لها بأفخر أثاث تُركيّ ؛ لكي يجتمعوا عندها فيه كلّ إجازة صيف كلّهم ، فتقرّ عينُها بهم جميعاً في آنٍ معاً !
والمشروعُ الكبيرُ الذي يُعدّه لها ( شفيق ) – الله يرضى عليه – هو مشروع العمر ، كما حدّثتْ زميلاتِها ، بيتٌ عربيّ قديم ، كتبَ عقد شرائه لها الصيفَ الماضيَ ، وعَهِدَ فيه إلى مهندسٍ مشهور لِيُقيمَ مكانه ( حضانة أطفال عصريّة متطوّرة ) مع حافلةٍ خاصةٍ بها . صحيحٌ أنّه سيُكلّفها مبالغَ باهظة وسوف يستغرق سنوات لإنجازه ؛ لكنّه سيكون مُستقرّها ومصدرَ دخلٍ مُحترمٍ لها حين تعود .. إن شاء الله تعالى !
هل عرفتم الآن لماذا يُشجّعها وينصحها – بلا كلل ولا ملل – إخوتُها الشبابُ الأربعة ، مع نسائهم وأولادهم وبناتهم ، ويدعونَ اللهَ لا يَفتُرون .. لتبقى هناك في الخليج " مُدرّسةً ( قدّ الدنيا ) يرفعونَ بها رؤوسَهم " ؟!