بعد أن يأوي صغارها إلى المنزل من مدارسهم تبدأ "زهرة"جوب شوارع تتلظى تحت لهيب الشمس حاملة خلف ظهرها حملاً ينوء عنه كثير من الرجال. تقوم بجمع بضاعتها المتواضعة في قطعة قماش كبيرة تطرق الأبواب التي نادرًا ما تفتح لها في ذلك الوقت.
كنتُ أحد أولئك الذين يتخوفون من فتح الباب للغرباء وخصوصًا أولئك الذين نعرف من سحناتهم أنهم لا يملكون تلك الأوراق التي تثبت أننا لا نتشارك معًا أسمًا حدده لنا سايكس و بيكو في ليلة قرعا فيها كأس فُرقتنا.
أنني أذكر ذلك اليوم الذي طرقت بابي. كان ذلك منذ عشرون عاما. وقفت أمامي إمرأة شابة سمراء البشرة التحفت بعباءة سوداء .ما إن فتحت لها الباب حتى انتفضت كطير ظمآن بلله القطر سلمت بعربية مكسرة فرددت عليها السلام ثم أنزلت حملها على الأرض و أشارت بيدها إليه , فأومأتُ لها بالإيجاب التمعت عيناها بتوهج غريب لقي أنيس له.لم أكن أرغب بالشراء لكن خجلت أن أردها خائبة. تكررت زيارات "زهرة" وبالتدريج توثقت صلاتنا , و في كل زيارة كانت تحدثني عن حياتها في قريتها قبل أن تتزوج من رجل يكبرها بعشرين عام و يأتي بها إلى هنا. حدثتني كيف كانت ترعى البقر في مراعي قبيلتها وكيف كانت تجمع الغلال و تطحن الحنطة كانت تتحدث بعفوية وسعادة تغمرها ,يخيل إلي أنها تروي ذلك و تلك المراعي ماثلة أمامها .حينما أسألها عن زوجها يفقد صوتها ذلك الحماس وتخبو نظراتها. تلملم بضاعتها بسرعة ثم تبتسم لي وتغادر .
لا أعرف لماذا حينما يعز علي المعين أجدها أمامي و كأنها تسمع صلواتي فتأتي لتقدم لي يد المساعدة بامتنان شديد كأنني أنا المتفضلة عليها بإسداء خدمة.
خط الشيب مفرقها قبلي و احدودب ظهرها في وقت مبكر جراء حملها الثقيل. كبر أبناؤنا سوية غير أن أبناءها يظهرون الكثير من الولاء والحب لذلك الوطن الذي لم يعرفوا سواه و يشدون فلذات كبدي لإحتفالات وطنية لا أرتضيها أحيانًا فأجدهم قد أحضروا الأعلام و صبغوا أنفسهم بألوان بهيجة ويرددون الأناشيد الوطنية ,فأنهرهم تارة و تارة ألوذ بالصمت والتفكر في حالهم .كانت إبنتها الكبرى متفوقة في المدرسة , فقد كانت "زهرة"حريصة على أن ينال أبناءها من التعليم ما تركن إليه في المستقبل. عادة ما أطلبن من إبنتها مراجعة الدروس لأبنائي فتنتهج نهج أمها تقدم المساعدة وترفض أي ثمن مقابل ذلك.توفي زوج "زهرة" و أصبحت تقوم بدور الأم والأب, و لم تعد تحدثني عن حياتها في بلدها الأم.
قررت زهرة أن تزور أقرباء لها في مدينة أخرى لمدة أسبوع. مر أسبوعان لم أتلقى أي إتصال منها. أتصل فأجد الهاتف خارج نطاق الخدمة .أعاود الكرة مرة تلو الأخرى و لا مجيب.سألت عنها كل من عرفوها و الجواب بالنفي يصدمني كل مرة. بعد فترة علمت أنه تم ترحيلها و أبناءها لبلدهم الأم الذي مازال أرضٌ بكر شبه خالي من الخدمات و لا يملكون فيه شبراً واحداً. أخبرتني قبل سفرها بأيام عن قلقها فقد أعطت أوراق إقامتها لأحدهم و كان يماطل في ردها إليها. تمر الأيام والليالي و مازلت أنتظر إتصال منها.