متطلبات ماقبل : النهضة .

تعقيباً على مقال أستاذنا الدكتور موفق سالم نوري في العدد (54) [ أفكار حول النهضة ] في مجلة الرباط.
لن نختلف في أن حافز النهضة لن يكون إلا مرتكزاً على المنهج العقائدي - فمن عرف نفسه فقد عرف ربه- ومن حيث أن القرآن هو كتاب الثورة المتجددة ضد كل صور الباطل في المجتمع ومن حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي باشر التصحيح لكل مسارات الحياة ، فما الذي يعوز تلك الرؤية التي طرحها أستاذنا في مقاله الكريم؟ إنه تجديد في ثورية الدين ذاته ! ألا تلحظ معي أن الكتلة الصامتة هي التي تعزف عن النهضة وأن المتدين اليوم نراه منسحباً في أغلب ولاءاته ، وأن الحياد هو السمة الأعم وهذا هو الحياد الذي يوصل إلى العار : أحياناً. فالمتدين اليوم نراه تابعاً للقرار السياسي أو تابعاً للمؤشر الإقتصادي أو للتحولات الإجتماعية مما أرهق فكرة النهضة وأزاحها عن بؤرة الفعل اليومي المباشر لأغلب الناس...ولاينحصر ذلك في مجتمعاتنا فحسب ، بل بقليل تأمل الإنسانية اليوم في الغرب المتحضر والمتقدم وه يعيش أحلك ساعات الحياة تشوهاً لمعاني الإنسانية .. وهذا(كولن ولسن ) يقول: إن الإنسان ليس كاملاً بدون دين، فإذا أريد للحياة أن تتقدم خطوات أسمى من (القرد)، ومن الإنسان العادي، وحتى من الفنان، فلن يكون ذلك إلا عن طريق تطوير قوة الفهم، وهذا الشوق لتركيز أعظم من الخيال يتمثل في (الشهية الدينية). إن الدين مقياس البطولة، ورمز حاجة الإنسان في الكفاح من أجل الفهم، وفشل الدين والحروب العالمية أمران متلازمان. ثم يصف (الدين) بأنه العمود الفقري للحضارة
أما (برناردشو ) فيذهب بعيدًا فيقول: (كنت أعرف دائمًا أن (الحضارة)تحتاج إلى دين، كما أن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك )
إن وعي التدين يرتكز على فاعليته وتسخيره لصالح تجديد مفاصل الحياة وليس الانسحاب من تحديات الواقع انعزالاً في الصوامع أو ممارسة الطقوس منعزلة عن اثرها في تجديد صور الصراع بين الحق والباطل والله تعالى يقول في كتابه المجيد { بل نقذف بالحق على الباطل } وأنظر إلى لفظ [ نقذف] ومايحمل من دلالات القوة والتحدي والثبات والحركة والمسارعة... أما المتدين الذي وصفته الآيات بأنه [ كلاً ] وكسولاً ومحبطاً ومتنازلاً ومتواكلاً فلايفتش عن الخبرات المادية والعقلية والأخلاقية التي هي الحجر الأساس لفعل النهضة التي يرجوها أستاذنا في المقال فمن أين لهذا المتدين أن يصبح أكثر حماساً للنهضة !! وهاهو أستاذنا يصرح أن الحل يبدأ من القرار السياسي وأظن أه ذلك لن يغير حال شبكة العلاقات الاجتماعية التي لن تحولها السياسة ألى شبكة سليمة وقوية ، فإذا فسدت تدهورت الحضارة وسقطت.. يكرر هذه النظرية ففي كتاب مالك بن نبي (ميلاد مجتمع )كتب يقول:[عندما يرتخي التوتر في خيوط (شبكة العلاقات) تصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك، وبصورة فعالة، فذلك أمارة على أن المجتمع (مريض) وأنه ماضٍ إلى نهايته ] .
فما بالنا إذا كانت القرار السياسي هو الذي يسهم في تفكيك تلك الشبكة وارتهان الاصطفافات العرقية والاثتية بل وحتى المذهبية على صعيد المتدينين أنفسهم !
والحال هذا من حيث التحلل والتمزق في مجتمعاتنا الإسلامي وقد أصبح الناس عاجزين عن أي نشاط نهضوي مشترك، يحيلنا إلى ما أشار إليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يارسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يارسول الله؟ قال:حب الدنيا،وكراهية الموت).
ومالك يرحمه الله ينبه إلى خطر الانفصالات في الشبكة الاجتماعية كماً وكيفاً ، وللمؤرخ توينبي فكرة أن انحلال الحضارة يزامنه فساد كبير، يدب في أرواح الناس، وتغير جذري يطرأ على سلوكهم ومشاعرهم وحياتهم كلها، فيحل مكان الصفات الجيدة، والقوى المبدعة، التي كانوا يتحلون بها، في دور النمو لحضارتهم، يحل مكانها (ثنائية ) من النزعات والمواقف العقيمة المتناقضة، وهنا ينكشف ويتعرى الفساد الروحي، كاشفًا عن فوضوية، تعم الأخلاق والعادات، وانحطاط يشمل الآداب والفنون، ثم قد تسعى (الأقلية المسيطرة ) إلى فرض فلسفة خاصة، أو دين جديد، مستعملة في ذلك القوة، ولكن دون جدوى ولا فائدة... والتاريخ لم يسجل نهضة ولا تحضراً جاء من أثر قرار سياسي دون أن يرافق هذا القرار تخطيطاً وتضحية وعملاً جاداً يشارك فيه الحاكم والمحكوم على حد سواء. فسلطة الحاكم تتعرض إلى [سلطة مضادة ] على حد زعم [ أولريش بيك ] يرفع صوتها النظام العولمي الجديد ، فقد ذهب زمن السلطوية الحاكمة لقرار ومصير مستقبل الشعوب ، وهذا الصندوق الإنتخابي يطيح بالسلطوية تارة بفوضى يخترعها الإعلام وتارة أخرى بقرار صندوق النقد الدولي . فالحاكم ذاته تبين أن محكوم وهي عقدة البحث لمقالة النهضة .ومن لم يصدق فليشاهد ملامح ثورات القوة الناعمة التي نشهد فصولها في عالم الربيع العربي.
ـــــــــــــــــــــ
قال تعالى : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 76 ]ويراجع كتاب : جودت سعيد ( كلاً وعدلاً )دار الفكر : دمشق 1991