صدام حسين .. رجل المهمات الصعبة في صياغة المشروع الأمريكي الشرق أوسطي
الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين آل مجيد قد حمل وبكل جدارة بطاقة معلقة على صدره تقول بأن هذا الشخص هو مجرم دولي.أي هو عاق جاء إلى العالم المتحضر في غفلة من الزمن، وحكم العراق (35) عاماً بدعم الولايات المتحدة الأميركية، والدول الغربية، ويقع على العراق والعالم وعلى كل إنسان شريف العمل على كنس هذا الإنسان وأفكاره البعثية الإجرامية… حكم العراق بالحديد والنار، وكان مُعترف به من جميع دول العالم، وكان الشعب العراقي المسكين، يستغيث ولم يسمعه أي محفل في العالم وخصوصا الرسمي، أو حتى مقهى في شوارع القاهرة أو عمان أو دبي أو صنعاء، عندما كانت حقوق الإنسان تأتي في المرتبة الثانية عند العرب بالمرتبة المليون في أجندة الدول والشعوب وخصوصا الدول العربية والإسلامية، حيث نعرف سياسة الحرب الباردة وكثرة الدول ذات الأنظمة الشمولية، لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبحت مسالة الحريات وهي الشعار الأمريكي لتبرير غزوها لدول العالم وتطبيق مشاريعها على العالم الشغل الشاغل للعالم دولا وشعوبا، حيث هبت رياح التغيير الأمريكي بقوة على كل العالم، وفرضت نفسها كقضية أولى يختبئ خلفها الكثير من الأسس الاستعمارية التي تخفيها أمريكا من وراء حملتها.
لكن ما هو المطلوب البحث به الآن هو معرفة دور صدام حسين في خدمة الأهداف الأميركية في الشرق الأوسط لا بد من استعراض الصراع الدولي على هذه المنطقة ، وعلى منطقة الخليج بوجه خاص ، في النصف الثاني من هذا القرن .
ومع أن الصراع الدولي على الخليج جزء من الصراع على منطقة الشرق الأوسط كلها ، إلا أنه لا بد من إعطائه عناية خاصة ، نظراً للأهمية البالغة التي يحظى بها لدى الدول الطامعة في منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسهم أمريكا ، بفضل ما تضمه أراضي الدول المحيطة بالخليج من احتياطات هائلة للنفط لا يُعرف لها نظير مُكتشَف حتى الآن.
ومع أن النفط كمادة استعملها الإنسان منذ آلاف السنين ، إلا أن أهميته لم تبرز إلا في هذا القرن ، بعد أن أصبحت وسائل الحياة في مختلف جوانبها تعتمد عليه بشكل متزايد ، تستوي في ذلك الجوانب المدنية والعسكرية . ويمكن القول اليوم إنه ما من دولة في العالم تستطيع الاستغناء عن النفط للحظة واحدة . وكلما كانت الدولة صناعية متقدمة كلما كان اعتمادها على النفط أشد وأكثر حيوية . فالنفط غدا مصدر الطاقة الرئيس في العالم كله . ولا يتصور أن يعثر الإنسان على مصدر بديل ذي جدوى اقتصاديـة في المدى المنظور كالطاقة الشمسية مثلا ، رغم كل الأبحاث والتجارب التي تُجريها الدول المتقدمة في هذا المجال لان النفط بعد استيلاء أمريكا عليه صار سلاحا ذو حدين على الدول الصناعية. .
ورغم أن شركات النفط الغربية التي بدأت العمل في منطقة الخليج بعد الحرب العالمية الأولى لم ترَ في النفط سوى سلعة تجارية في البداية ، وتنافست عليه تنقيباً وإنتاجاً بسبب أرباحه الوفيرة ، إلا أن هذا التنافس ما لبث أن تحول إلى صراع بين الدول الاستعمارية التي تنتمي إليها هذه الشركات بعد الحرب العالمية الثانية .
ومن المفارقات أن الشركات النفطية التي كانت تعمل في مجال النفط في الشرق الأوسط كانت كلها في البداية أوروبية إلى أن رأت بريطانيا جرّ الشركات الأميركية إليها ، بهدف حمل الولايات المتحدة على مشاركتها عبء الدفاع عن المنطقة في وجه الخطر الشيوعي الذي بدا داهماً في ذلك الوقت .
ونتيجة للتوسع في استخدام النفط كمصدر للطاقة في وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية ، وفي المصانع علـى اختلاف أنواعها ، في المجالين المدني والعسكري ، فإن هذه المادة المهمة لم تعد مجرد سلعة تجارية بل مادة حيوية بالغة الأهمية . وأدى ذلك إلى تحوّل المنافسة بين شركات النفط الغربية إلى صراع بين الدول التي تنتمي إليها هذه الشركات على السيطرة على منابع النفط .
ومع ظهـور دراسات خلال السبعينات من هذا القرن تشير إلى احتمال نضوب منابع النفط المكتشفَة في العالم خلال عقود ، تأجج الصراع الدولي على النفط ، وأصبحت السيطرة على منابعه الغنية ، وخاصة في منطقة الخليج ذات الاحتياطات الهائلة ، مسألة حيوية للدول النافذة في العالم .
وفي الشرق الأوسط ، ومنطقة الخليج منه تحديدا ، تزامن هذا الصراع مع محاولات أميركا طرد المستعمرين الأوروبيين مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها من المنطقة ، ومحاولات بريطانيا التشبث بنفوذها والرد على المحاولات الأميركية .
ويمكن القول أن أهم نجاح حققته أميركا في الخمسينات في إطار هذا الصراع هو أخذها مصر عام 1952 ، وبناء زعامة جمال عبد الناصر للعرب كلهم ، واستغلال وزن مصر في المنطقة وشعبية جمال عبد الناصر لدى شعوبها في محاولات استئصال النفوذ البريطاني الفرنسي من المنطقة كلها بحيث استطاعت أمريكا عبر عبد الناصر أن تخرج النفوذ البريطاني الفرنسي وسيطرتهم عبر شركاتهم على قناة السويس تحت مسمى تأميم القناة ومن ثم فتح الباب للشركات الأمريكية لاستكمال الدور في استغلال قناة السويس ذات الأهمية الاستراتيجية في المنطقة.
وفي مواجهة المد الأميركي في المنطقة ، لم تقف دول أوروبا مكتوفة اليدين ، بل حاولت التشبث بكل قطر كان تحت سيطرتها ، كما حاولت استرداد ما خسرته . وركزت جهودها على محاولة القضاء على عبد الناصر ، سواء من داخل مصر أو خارجها . فاستغلت عداء الإخوان المسلمين والوفديين للزعيم المصري ، وبدأت أولى الحملات البريطانية مع فرنسا وإسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، ثم مع إسرائيل وحدها عام 1967 في الحرب التي سُمّيت بحرب الأيام الستة ، والتي استهدفت القضاء على عبد الناصر وكادت تنجح في تحقيق هذه الغاية .
وكان العدوان الثلاثي ومشاركة بريطانيا العسكرية المكشوفة فيه أول حرب تخوضها لندن في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية دفاعاً عن نفوذها وعن مصالحها .
غير أن السوفييت أفشلوا العدوان الثلاثي، وأجبرت كُلاً من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على الانسحاب التام من الأراضي والمياه المصرية لأن السوفييت كانوا يطمحون بنفوذ أوسع لهم في المنطقة وعبر محاولاتهم العديدة لجمع نفوذ العرب حولهم, فقد كان السوفييت أول من كشف مخططات سايكس بيكو للعرب إلا أن القادة العرب في ذلك الوقت لم يصدقوا السوفييت وقالوا أن هذا جزء من الحرب الرأسمالية الاشتراكية.
بالرغم من ذلك استمر الصراع الأوروبي الأمريكي على منطقة الشرق الأوسط فأمريكا من ناحية تحاول تحقيق سيطرة كاملة على المنطقة عبر طموحها في مشروع الشرق الأوسط وبالذات بعد مؤتمر الوفاق مع الاتحاد السوفيتي واتفاقهما على تقسيم العالم بينهما, ومن ناحية أخرى تحاول دول أوروبا على التشبث بمستعمراتهما في المنطقة ومن هنا بدأ كلا الطرفين الأمريكي والأوروبي بالضغط على الآخر لإخراجه من مناطق نفوذه ومنعه من الاستيلاء على المستعمرات, والغريب في الآمر أن هذا التكالب الاستعماري كان يحظى بقبول الدول العربية التي تصنف حسب تقييم الولايات المتحدة (الدول اللاشيئية ) حسب القاموس السياسي للمنطقة.
وكان من جملة الضغوط التي مارستها أميركا ضد بريطانيا بالذات لإجبارها على الانسحاب إصدارها الأوامر لناقلات النفط بعدم تفريغ حمولتها في الموانئ البريطانية إلا بعد استجابة لندن لمطالبها.
وقد تلقت بريطانيا ومثيلاتها من الدول الاستعمارية الأوروبية في هذه التجربة درساً قاسياً لا يُظن أنها ستنساه في يوم من الأيام . واستخلَصت دول أوروبا من هذه التجربة عبرة ذات شقين : لا بد أن تؤمِّن لنفسها حاجتها من النفط في جميع الظروف والأحوال ، ولا بد من زعزعة سيطرة أميركا على أسواق النفط العالمية ونزعا إن أمكن.
وتمثلت السيطرة الأميركية على أسواق النفط في ذلك والوقت في (( الأخوات السبع )) . و (( الأخوات السبع)) عبارة عن سبع شركات نفطية (معظمها أميركية) ، ظلت تسيطر حتى عام 1970م على 90% من الاحتياطي العالمي للنفط ، كما كانت تحتكر إنتاج 80% من نفط العالم ، وتملك طاقة تكرير بنسبة مماثلة ، وتهيمن على أسواق النفط العالمية بشكل شبه مطلق وكانت تملك بالإٌضافة لذلك 50% من أساطيل نقل النفط والغاز في العالم .
فهذه الشركات كانت تشتري النفط من الدول والشركات المنتجة له ( بالإضافة طبعاً إلى ما تنتجه هي ) ، وتقوم بتسويقه في العالم ، ما جعل لها الكلمة الفصل في تحديد الأسعار وفي تزويد الدول بهذه المادة أو حجبها عنها .
والتحكم بهذه العمليات الضخمة كان يتم ( ولا يزال ) من خلال مجلس إدارتها الكائن في طابق شاهق من ناطحة سحاب في مدينة دالاس بولاية تكساس الأميركية .
ولتقويض هذه السيطرة الأميركية على النفط وتسويقه ، وضعت بريطانيا خطة طويلة الأمد ، بدأت في تنفيذها في أواخـر الخمسينات ، حين أوعزت للموالين لها من أنظمة وحكام وعملاء وغيرهم في الأقطار المنتجة للنفط بتشكيل منظمة ذات امتداد عالمي ، تنضوي تحت لوائها الأقطار المصدرة للنفط ، حتى يكون لهذه الأقطار من خلال هذه المنظمة قول في السياسات النفطية ، سواء على صعيد الإنتاج أو التسويق.
وهكذا وُلدت منظمة الأقطار المصدِّرة ( أوبيك ) عام 1960م . وبدأت هذه المنظمة في التحرك للسيطرة على سياسات النفط . ولما كانت معظم الأقطار الأعضاء في أوبيك في ذلك الوقت واقعة تحت النفوذ الأوروبي ، بدأ نفوذ الأوروبيين على أسواق النفط يتزايد بشكل مطرد ، على حساب السيطرة الأميركية ، وخاصة وبعد تأسيس (( الأوابك )) ، منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط .
أما لتأمين حاجتها من النفط في كل الظروف والأحوال ، فإن أوروبا شرعت في البحث والتنقيب عن منابع النفط في أراضيها وفي البحار المحيطة بالجزر البريطانية والفرنسية وبقية دول أوروبا ، ولم توفَّق في العثور على النفط إلا شمال بحر الشمال . وبسبب سوء الأحوال الجوية في تلك المنطقة ، فإن استخراج النفط منها تطلّب مبالغ طائلة .
ولتأمين التمويل اللازم لهذا المشروع الحيوي حسب تقدير الساسة الأوروبيين في ذلك الوقت ، أوعزت دول أوروبا وعلى رأسهم لندن إلى رجالها والحكومات الموالية لها من حكام الدول المنتجة للنفط بتأميم شركات النفط في بلادهم ، لتضرب عصفورين بحجر واحد . فمن جهة تحصل على مبالغ ضخمة من المال كتعويض لشركاتها ، ومن جهة أخرى تنتهي سيطرة الشركات الأميركية على إنتاج النفط في الدول المعنية.
والنتيجة معروفة ، وهي أن بريطانيا صارت من الدول المصدِّرة للنفط ولم تعد تحت رحمة أحد في تأمين احتياجاتها الذاتية من هذه السلعة الحيوية.
وقد برزت سيطرة الموالين لبريطانيا على سوق النفط بعد عمليات التأميم ، إذ شرعت الدول المنتجة للنفط بتصديره بنفسها ، بل وأنشأت أساطيلها الخاصة من ناقلات النفط والغاز ، كما فعلت معظم دول الخليج .
وهكذا تراجع نفوذ (( الأخوات السبع )) على سوق النفط إلى حد كبير ، نظراً لفقدانها معظم عمليات التسويق التي كانت تقوم بها لنفط الدول الواقعة تحت النفوذ البريطاني .
وقد تجلَّت سيطرة الأوروبيين والموالين لهم على سوق النفط بعد حرب عام 1973 بين العرب وإسرائيل . فقد رفعت الدول المصدرة للنفط التي كانت لا تزال تخضع لسيطرة سياسية بريطانية وفرنسية في ذلك الوقت ، وعلى رأسهم فيصل ملك السعودية ، شعار (( سلاح النفط )) . وأخذوا يتحكمون في سوق النفط ، فيعطونه للدول التي اعتبروها صديقة ، ويمنعونه عن الدول التي اعتبروا مواقفها مناوئة للعرب . وبالإضافة لذلك ، فإنهم أخذوا يتحكمون في أسعار النفط ، فرفعوها إلى مستويات أوجعت كافة الدول المستوردة للنفط ، وخاصة الدول الأوروبية و الصناعية وعلى رأسها اليابان.
صحيح أن أميركا نفسها دولة مصدِّرة للنفط ، وشركاتها كانت من أوائل المستفيدين من رفع أسعار النفط بل ولها دور في رفع الأسعار ، غير أن المسألة لم تكن بالنسبة لها مسألة ربح أو خسارة مادية بقدر ما كانت مسألة سيطرة على سوق النفط ، وما يترتب على هذه السيطرة من نفوذ سياسي . ولهذا لم يَطُل الوقت حتى شرعت أميركا في وضع خططها لاستعادة السيطرة على سـوق النفط .
وقد بدأت أولاً بشن حملة دعائية عالمية لاقت نجاحاً كبيراً لدى جميع الدول المستوردة للنفط التي ذاقت مرارة ارتفاع الأسعار . وأبرز ملامح هذه الدعاية تصوير شيوخ النفط بالجهلة البدائيين الذي لا يجوز للعالم ((المتحضر)) أن يترك بأيديهم هذه المادة الحيويـة ليعبثوا بها . وفي رد مباشر بدأت الدول الصناعية برفع أسعار منتجاتها المصنّعة ، بحجة أن تكاليف صناعتها زادت نتيجة لارتفاع أسعار النفط ، رغم أن زيادة أسعار هذه المنتجات لم تكن متناسبة على الإطلاق مع الزيادة الضئيلة نسبياً في كلفة الإنتاج الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط . وفي الخفاء أخذت واشنطن تعمل على الإطاحة برجال بريطانيا وأوروبا وإحلال أنظمة موالية لها بديلة مكانهم ، وخاصة في منطقة الخليج . وكانت البداية قتْل الملك فيصل ليكون فهد ولياً وملكاً غير متوج للسعودية .
وفي العراق أخذت أمريكا تعزز مكانة رجلها المخلص صدام حسين الذي جاءت به بعد قتل الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الموالي للسوفييت والذي اعتبرته من اشد أعدائها، فجعلته يتولى أمر إنهاء التمرد الكردي الذي كان يتزعمه الملاّ مصطفى البرزاني في شمال العراق ، وذلك من خلال اتفاق الجزائر ( 1975 ) ، الذي أنهى الخلاف الإيراني ـ العراقي حول شط العرب باقتسامه مناصفةً بين الدولتين ، وكان من أهم شروطه تعهّد إيران (أيام الشاه) بالعمل على إنهاء التمرد الكردي . وبالفعل انتهى هـذا التمرد ، وعاش البرزاني بقية أيام حياته في فلوريدا.
وأتبعت واشنطن ذلك بإشعال الثورة الإيرانية عام 1978م ، مستغلة في ذلك شعبية الخميني الذي كان يقيم في العراق ، ومكانته عند الشعب الإيراني ومعظم ملالي إيران.
وبعد أن أصبح صدّام الرجل القوي في بغداد تمكن من إبعاد البكر ، والحلول محله كرئيس للعراق (1978م) . وبذلك سيطرت الولايات المتحدة على أهم ثلاث دول في منطقة الخليج : السعودية والعراق وإيران . ولم يبق عليها سوى الهيمنة على ما تبقى من دويلات الخليج التي يحكمها أمراء وشيوخ بحكم انتمائهم لعشائر معينة ، وتحت تصرفهم ثروات نفطية هائلة . ورأت أميركا أن الطريقة المثلى للهيمنة على هؤلاء الحكام هي تخويفهم ودفعهم للارتماء في أحضانها لحمايتهم . ووضعت لتحقيق هذا الهدف عدة خطط ، بحيث كانت كلما فشلت خطة استبدلت بها غيرها .
وكانت أولى هذه الخطط الإيعاز لإيران ، بعد أن أصبح الخميني زعيمها غير المنازَع (1979م) ، برفع شعــار ((تصديــر الثورة)) ، مستغلة في ذلك وجود أعداد كبيرة من الإيرانيين في معظم دول الخليج وكذلك النسب العالية من الشيعة في المجتمعات الخليجية كالبحرين مثلاً ، إلى جانب حقيقة أن جزء غير قليل من سكان هذه الدول من أتباع المذهب الشيعي ، المتعاطفين في معظمهم مع الخميني ، قائد الدولة الوحيدة الحاملة للواء التشيُّع في المنطقة.
وبالفعل قام أنصار الخميني في بعض هذه الدول بتحركات نشطة أزعجت الحكام (وخاصة في الكويت)، ولكن هؤلاء الحكام سرعان ما سيطروا على الوضع ، وأوقفوا التحركات الإيرانية داخل دولهم عند حدها, وكان من الطبيعي أن لا تدفعهم هذه التحركات في النهاية لطلب الحماية الأمريكية.
بعد ذلك إصتدمت أمريكا بدخول الاتحاد السوفيتي لأفغانستان عام (1979م) . فقد كان بابراك كارمال منفياً في تشيكوسلوفاكيا . وعندما عاد كارمال إلى كابول ليتزعم انقلاباً عسكرياً شيوعيا. وأدى هذا الانقلاب إلى نشوء حالة من الاضطراب عمّت أفغانستان ، مما جعل الاتحاد السوفيتي يهبّ لنجدته واجتياح أفغانستان . وبدأت الحشود السوفيتية على الحدود الأفغانية التي بلغ عدد جنودها حوالي 80 ألفاً.
وبالغت واشنطن في تصوير مخاطر هذه العملية على دول شبه القارة الهندية ومنطقة الخليج, وأطلقت على الأقطار المعرّضة للخطر السوفيتي المزعوم وصف (( قوس الأزمات)).
وفي هذه الأثناء أعلن كارتر أن الخليج منطقة حيوية لأمن الولايات المتحدة ، وهو الإعلان الذي عُرف فيما بعد باسم (( مبـدأ كارتر )) . كما أرسل زبيغنيو بريجنسكي ، مستشاره لشؤون الأمن القومي ، إلى باكستان ، في مهمة طارئة . وأخذ يتحدث بريجنسكي عن الخطر الشيوعي الداهم ، مذكراً بالأطماع الروسية القديمة في الوصول إلى المياه الدافئة ، وضرورة التصدي لها من دول المنطقة.
ونشط عملاء أميركا وغيرهم في المنطقة في إرسال (( المجاهدين )) إلى باكستان ، للعبور منها إلى أفغانستان ، والمشاركة في التصدي للشيوعيين، ودرء (( خطر الإلحاد )) عن بلاد المسلمين ، وكأن الرأسمالية التي تحمل أميركا لواءها ليست كافرة ، ويهمها أمر الإسلام والمسلمين, ومن الأمثلة التي تدلل على اشتراك أمريكا في إيجاد ما سمي بظاهرة المجاهدين الأفغان لحرب السوفييت تفاصيل دراسة أميركية نشرت عام 1993توضح كيف أن الرئيس الراحل أنور السادات شجع الإسلاميين المصريين على الانتقال إلى باكستان وأفغانستان بإيعاز من الولايات المتحدة ، وبالتعاون مع الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق الذي ساعد في إقامة مراكز التدريب، وتطورت الأمور بسرعة إذ أصبحت هناك فيالق من المجاهدين الراديكاليين خضع عناصرها لدراسات عقائدية إلى جانب التدريب العسكري.(1)
وأخذ المسؤولون الأميركيون يتوافدون على دول الخليج ، مهولّين من الخطر الشيوعي ، وعارضين على هـذه الدول الحماية الأميركية . غير أن دويلات الخليج ، وحكامها لم تنطلِ عليهم هذه الحيلة ، ورفضوا الاستجابة لواشنطن في البداية.
وهنا تفتق ذهن المخططين الأميركيين عن إشعال الحرب بين العراق وإيران على نحو يجعل الرعب يدب في قلوب حكام الخليج . وبدأ التوتر يتصاعد بين العراق وإيران استجابة لرغبة واشنطن حتى بلغ الأمر حد الانفجار . فبادر صدام حسين بمهاجمة إيران ، وركّز هجومه البري على ما تُسمى (( عر بستان )) ، الواقعة في الجنوب الغربي من إيران . وتظاهر حاكم العراق بأن حربه وقائية ، في ضوء رفع إيران لشعار (( تصدير الثورة )) ، واستجابة بعض العراقيين الشيعة لهذا الشعار ، والقيام بقلقلة أمن العراق.
وهكذا اندلعت حرب ضروس بين الجارتين المسلمتين استمرت ثماني سنوات ، وحصدت الأخضر واليابس في الدولتين ، وخاصة في العراق . وبعد اشتعال هذه الحرب بأيام ، عقد وزيرا خارجية أميركا والاتحاد السوفيتي ( إدموند ماسكي وأندريه غروميكو ) ، اللذان كانا يحضران الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك ، اجتماعاً دام ساعة ونصفاً تركز البحث فيه على الحرب العراقية ـ الإيرانية ، أصدرا بعده بياناً مقتضباً فحواه أن الدولتين تقفان على الحياد من هذه الحرب ، وتدعوان الدول الأخرى لعدم التدخل أو تزويد أي من الطرفين بالسلاح ولم يخلُ البيان بالطبع من دعوة الدولتين لوقف العمليات الحربية.
ودلّ هذا البيان بشكل لا لبس فيه على أن الدولتين اللتين كانتا تُسميان بالعملاقين راضيتان وسبقاً أو أحدهما عن استمرار الحرب، وبذلك تكون الدولتان قد تجاهلتا دورهما الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة والمتمثل في الحفاظ على (( الأمن والسلم والدوليين )) ، باعتبارهما من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن . أما بقايا الاوروبيين من العرب في المنطقة فقد اضطروا للوقوف إلى جانب العراق بالمال وأحياناً بالرجال حتى لا ينهار ما اعتبروه خندقهم الأمامي في وجه الخطر الإيراني أو بعبارة أخرى الأمريكي.