ليلا.. كأن بعض المدن تفقد جاذبيتها إذا ما تجولنا خلالها بغير الليل. كانت مراكش هكذا وحدها يغري ظلامها والمصابيح المعلقة بأكثر من مشروع تيه في دروبها المربكة في تشابهها، والنخيل يكاد لا يخلو منه مكان كأنه أحد طقوس سحرها الآسر. عبورا نحو جهة خامسة ظل كل شيء شبيها بغيره دون أن يتكسر على حواف دهشة تباغتني. وصولا إلى جامع الفنا عرفت أن للمدن أسرارها، وبعض أسرارها لا تفصح عنه بسهولة ولا بتسرع. هناك تفتح ليل آخر، ببطء تفتح وأنا أراقبه بعينين تتسعان كعيني طفل أمام حوض سمك يراه لأول مرة. غريبا كنت عن هذي المدينة، وكالغرباء كان لابد من زلازل يحدثها بي عبوري لها. كل شيء هنا ينطق بلهجة محببة كثيرا إلى القلب، مسكونة بما يكفي من السخرية.
هنا يجتمعون كلهم من مشارب مختلفة: سقاؤون بقراب من جلود الماعز، بكؤوس نحاسية حمراء، بجرس نحاسه أصفر وشبه وزرة موشحة بالعملات القديمة، يراهنون على العطاش لماء برائحة الزعتر، وحناجرهم تجف لكثرة صياح ليس يريحهم منه سوى جلجلة يحدثها قرع الجرس مرة مرة، تزاحمهم في قوتهم اليومي قنينات المياه المعدنية المعبأة في حجم صغير، ثم في حجم أصغر بالكاد يملأ كوبا، أما الأوفياء فلا غنى لهم عن مياه مضمخة برائحة كتلك... نسوة يمتهنَّ نقش الحناء للغريبات كثيرا، كما لبعض من بنات المدينة، تعرفهن عادة بجلابة ونقاب، وعيون مرهقة صارت ترى بصعوبة في الضوء الخافت للمكان، يمضين اليوم أكمله محاولات الوصول إلى تصاميم مبتكرة، إلى نقوش جديدة لم تسبق إليها الأخريات، ما بحوزتهن سوى إبرة النقش وإناء الحناء وكحول للراغبات بلون طاعن في السواد، إضافة إلى ألبوم صور به عينات مختارة لنساء مميزات، أما الوقت فلا يكفي لتبادل الأحاديث الودية مع الجالسات أمامهن... رجال سمر يقرع طبلا كبيرا أمهرُهم بيدين يخيبان ظني كلما توقعت أن تتعبا بلحظة أو بأخرى، فيما يضبط الآخرون الإيقاع بقراقيب من حديد، وعلى الرؤوس طرابيش صوفية مزينة بحبات بيضاء كالصدف البحري، ومن تحتها تتدلى جدائل شعر مضفور بحيث لا يغير شكله شيء، والكل مغيب في حالة إغماء واستلاب شبه كامل... رجلان يرتديان ملابس غريبة، تجمع حولهما الكثيرون كي يضحكوا لما يقولانه، ويتناسوا شغب الحياة معهما، هما اللذان لا أحد تساءل يوما عن حياتهما الفعلية كيف هي حقا. يضحك المستمعون لهما في استغراق تام، فيما ينتقلان من مشهد إلى آخر ومن نكتة إلى أخرى دون أن تبدو عليها آثار انفعالهما بما يقولانه، وكأن ما يقولانه لا يعنيهما في شيء، أو كأنهما فقدا القدرة على الضحك، أو كأن الحياة استثنتهما من مراسيم الفرح... حاو يفترش سجادة حمراء قديمة، عليها صندوق بابه شبه موارب، وإلى جانبه أفعى تبدو كأنها ميتة، لولا أنها تنتفخ وتعود كما كانت بين وقت وآخر، بينما يلاعب ثعبان كوبرا أسود بمزماره متمايلا يمنة ويسرة، وجها لوجه، وقتما يطوف صديقه بالمتحلقين حول المشهد وفي يده دف محلي الصنع، ترمى به الدراهم وأنصافها كثيرا، وبعض النقود ذات القيمة من أجانب يستوقفهم ذهولهم وهم يتساءلون بلغات صار معظم أبناء مراكش يفكك شيفراتها بيسر: كيف يستحوذ صوت الناي على الكوبرا علما أن الثعابين صماء؟... شاب اختار أن يتحدى البطالة بلوح خشبي يشده إلى جيده شريط عريض، وعليه قطع صغيرة من الحلوى ملفوفة بغلاف شفاف، يتقاسم الفضاء مع آخر مثله يبيع عوض الحلوى قراطيس اللب الأسود والحمص والسكاكر وعليبات اللبان بالنعناع... أفراد يحتفلون كل ليلة بالماضي، يجلسون بشكل أنيق وقد خصصوا مقاعد قليلة للمحظوظين الأوائل ممن يتسابق إليهم، يضيئون حلقتهم بفتيل يبرز ظلال الأشخاص والأشياء بأكثر مما يكشف التفاصيل، يعيدون إحياء أغاني "ناس الغيوان" التي لم تمت بابتسامات حاضرة وتماه مع الذكريات، فلا يدري الواقفون كما الجلوس متى مر الوقت سريعا، ومنهم من لا يتغير انطباعه مطلقا وقد تعود المجيء إلى هناك كل ليلة... لاعب خفة ليس معه سوى طاولة عليها ورقات ثلاث، يبادل أماكنها بمهارة وقد تعود طيها بشكل مدروس، يقلبها أمام الرائين ويتحداهم أجمعين أن يحددوا مكان واحدة منهن: الملكة. تستعد الأعين للملاحظة والرصد بدقة لا تخطئ، فيما تمتد الأيادي في الجيوب بحثا عن قيمة الرهان. يبدأ خلط الأوراق ومبادلتها بتغيير مواقعها في ما يوحي بسهولة الأمر، بما يكفي لإغواء الحضور ودفعهم للعب تباعا. يتقدمون واحدا واحدا، يختار المراهن ورقته بثقة يزيدها تأييد الاخرين له بهمس أقرب للجهر، يضع رهانه على الطاولة فتسرع يد اللاعب لدس المبلغ في جيبه، يطلب من الواقف أمامه التقاط ورقته بابتسامة، يقلب المراهن الورقة، فإذا بها ليست الملكة... رجل يقرأ القرآن دون أن يأبه له أحد، وكأنه ورد يومي ليس يجد بركاته حين قراءته في ساحة أخرى سوى هذه، يمر به الحاضرون متسائلين بغير كبير اهتمام حول ما إذا كان من العارفين بالله أو من العارفين بالناس، وكيف لرجل سواه له ذاكرة حفظ مثل ما له هو أن يفضل الجلوس هنا على إمامة الناس في أحد المساجد، أو حتى فتح بيته للراغبين في الحفظ أو في رقية شرعية تكفيهم شر النفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد... شيخ أعمى يجلس إلى الأرض العارية الباردة، يثبت عينيه نحو خواء مظلم، يدعو ويدعو ويدعو، ولا شيء آخر يفعله سوى الدعاء، أمامه إناء يستقر داخله ما يجود به المتصدقون عليه، وكلما سمع صوت ارتطام القطع النقدية بقعره ينتظر لحظات قبل أن يسرع بجمعها مخافة أن يأخذها لص يغريه عمى العجوز وانهماك الكل في الكل على حين غفلة من يده التي تحترف الخطف في خفة... صاحب كمان لا أحد يدري متى يعزف تحديدا، ذلك أنه يمضي المساءات أغلبها في تلميع القوس أو شد الأوتار الأربعة، يظل باحثا عن لحنه الجميل، لحنه الأجمل، لحنه المضاع دون أن يعزف حقا. لا يأبه للزمن، للعابرين الذين يمرون به سراعا كأنه لا أحد جالس في ذياك المكان، لا يكاد يرفع عينيه نحوهم هو الذي يعطي انطباعا باستغنائه عنهم، في ذهنه مشاريع معزوفات بالكاد تطل عليه بداياتها...
رأيت هذا كله، رأيته بقلب فرح، بابتسامة عفوية، بحاجبين رفعتهما الدهشة أعلى من عينين تبرقان أكثر وأكثر. رأيته كما رآه صديقي، أو ربما كما لم يره، في الحالتين عرفت لاحقا أن ذاكرته لم تسقط أوراقها في شتاء النسيان. رأينا التائهين من أمثالنا، السائرين من إلى دون اهتمام بالفضاء وحركية هؤلاء وأولئك، رأينا ما رأيناه وكنا حينذاك مجرد عابرين مرا سهوا لتعلق بهما رائحة المكان.. عابرين يسترقان من العمر شيئا قليلا ليبعثراه في جامع الفنا ليلا، وكأن بعض المدن تفقد جاذبيتها إذا ما تجولنا خلالها بغير الليل. كانت مراكش هكذا...