رغبةٌ أخيرة
الى الشهيد الطفل : عبدالرحمن وأطفال غزة الشهداء
تقهقرت الشمس قليلا ، بدت كأنها تسقط بغتة ، ببعض نور لم يزل بعد تظهر الأشياء دون وضوح تام ، أجسامٌ صغيرةٌ محمولةٌ على الأكف ، أرواح تتداعى ، ونجومٌ تخفت وأخرى تضاء ، حركة لا تنتهي في مكان ضيق ، واسعٌ جداً بما يحويه من أرواح ، أكثر رحابة من الحياة ذاتها !
يتراجع د. مجدي من هول المشاهد ، يفرك عينيه المتعبتين ، يذهب ليغسل وجهه المرهق ، المشفى يهتز بعنفٍ من وقع الضربات التي لا تتوقف ، مشاهد الأطفال لا تفارق مخيلته ، كم أشتاقك يا عب الرحمن !
عائلات بأكملها ممددة على الأسرة ، بين قتيل وجريح ، صراخٌ لا ينتهي ، زغاريد خفية ، يرقص شبح الموت على أنغام الطبول ، وصوت الرصاص ، ووقع القصف الذي لا ينتهي أبداً ..
أمام مكتبه يجلس ، يتساقط فوق كرسيه متعباً ، لحظة انهيار بعد أيام لم يذق فيها طعم الراحة ..
يزعجه أن يرى الأشياء واضحة هكذا ، دون زيف أو تصنع ، الصورة واضحة غير مقلوبة ، هؤلاء يتصرفون على طبيعتهم ، لأنهم لا يجدوا وقتاً لرفاهية التصنع ، لقد ولد هؤلاء .. ليموتوا ..
تعود دائماً أن يتأمل سخرية الحياة ، أن يتعلم درساً من اختلافها ، واختلاف طرائق الموت في مباغتة ضحاياه ، وفاة داهمة بسكتة قلبية \ حادث سير\ مشاجرة عائلية \ غرق \ حريق منزلي ، وسائل وأشياء تتصنعها الحياة لكي تغتال أحداً ، قدرٌ ولا شك ، يجعل الاختلاف بين الناس في الحياة والموت ، طبيعة .
الأجساد المسجاة أمامه اليوم ، تعلن توحداً في الموت ، كما كان في الحياة .
انه المصير الواحد ، بذات الوسيلة والكيفية وبنفس الأداة .
كم يلزمك من الشجاعة ، يقولها محدثاً نفسه المتعبة . لتشيع حبيباً ؟
وماذا يلزمك ؟ من انفعالات لتعبر بها عن ذاتك ، وأنت تحفر قبراً ، وتضع رخاماً ، لتدفن أعز الناس إلى قلبك ؟
يستفيق من غفوته ، على وقع انفجار عاشر بعد الألف ، ينتفض قليلاً وقد تعود هذا الصوت ، حتى أصبح يتساءل ، عندما تمضي دقيقة دون انفجار ، ماذا هناك ؟ وأي أمرٍ طارئ مخيف ، جعل القصف على غزة يتوقف ؟
استر يا رب .
يقف ، يغسل وجهه ، ومن خلفه استغاثة أحد الممرضين ، موجة جديدة من الشهداء ، وبينهم –كالعادة – أطفالاً في عمر الزهور ، الزهور التي ذبلت خوفاً ..
***
- لا تخرج يا والدي
يتمسك به عبد الرحمن ، يتشبث به بقوة غريبة ..
يزيحه والده برفق ، انه واجبي يا صغيري ، وهو استدعاء طارئ ولا شك ، ربما ليلة واحدة وأعود إليك .
يبتسم ، مرغماً ، وتتراخى قبضته حول ذراع والده ..
- ماذا تحب أن أحضر لك ؟
تتلاشى الابتسامة ، يجفل مع وقع الانفجار الثاني ، ويقول بصوت متهدج :
- فقط أريدك أنت .. أن تعود لي .
***
غرفة الطوارئ مكتظة ، عن آخرها ، والأجساد متلاصقة ، يصعب أن تميز بين الجرحى والشهداء ، فكلهم هناك ، كلهم تشع أجسادهم عبيرا ، كلهم ينزفون ، بدماءٍ من لونٍ .. واحدْ .
وهو يهرول ، ليتفقد أحد الشهداء الصغار ، تصلب شعر رأسه بغتة ، شعورٌ غريب يعتريه أن ثمة مصيبة .. قادمة .
الجسد أمامه ملقى على ظهره ، وجهه مغطى بالغبار بع انتشاله من ركام منزله ، قميصه الأزرق ممزق ، قميصه الأزرق !
" فقط أريك أنت .. أن تعود لي "
الدموع تتجمد في مقلتيه ، يفحص صدر الطفل ، لا نبض
يمسح بكفيه وجهه الصغير ، يزيح الغبار عنه ، تتبدى رويداً رويداً ، ملامح طفلٍ تركه منذ ثمانية أيامٍ وحيداً ، مع زوجته الصابرة ، في منزلٍ بعيدٍ عن كل بؤر التوتر ، منزلٍ لم يعد اليوم ، كما كان .
يحاول أن ينعشه ، أن يعطيه دفقة حياة ، يصرخ بما أوتي من قوة ، يتجمد المشهد في قاعة الطوارئ ، حتى المصابين ، يرقبوا المشهد في دهشة ، وزملائه من الأطباء ، والممرضين ، يهرعون ليواسوه ، يتساقط أمام جثة الصغير ، يحمله بين يديه ، يبكيه ، ترتعد فرائصه وهو يتخيل لحظة كان يخشاها ، حين يواريه التراب ، ويتركه هناك ، وحيدا ..
يقبله في جبينه ، ويصرخ :
- وداعاً يا عبدالرحمن .
وبصوتٍ كالذهول يقول :
- ليتني أهديك عمري
ويرد الطفل ذات حياة :
" فقط أريك أنت .. أن تعود لي "
***
غزة
22 نوفمبر
معركة حجارة السجيل