يا أنتَ يفعل بي غِيَابُكَ كَثيرًا مِنَ الأشْياء التّي تُفْقدني عقْلي و صَوَابي ، تسْرقُني منْ أهْلي ، رفَاقي و كلّ العُيون .
أظنهم مَا حدّثوك، و أظنّك مثلَهم جاهلا بما يَفعَلُه الغيَابُ بي .
سأحدّثك فألق السّمع و استمع،و كنْ مستعدا بما يكفي، قدْ تَسمع مَا يُرضيك ، و قدْ تسْمعُ ما لا تَشتهيهِ.فجلْجَلة أجْراس الغِيَاب مُزْعِجة يضِجّ مِنها السّامعُون ،
أمَا حدّثوك عن قلْب هَارب مِنْ صَاحبه . مُتباينة نبضَاته ،متثاقلة أنْفَاسه ،قاتمة سماؤه ،فالضّباب بّسّط رداءه عليها ،جدبَاء أرْضه فالغيم عاَنق بعْضه عِنَاقا عقيما ،شقية أوجَاعُه ،حينا هادئة
و حين تتسرب من سَمّ الفرح العَابر ِفيه ، تلْدغ خدّه ،فتمتصّ غمّازته نكَداً ،
و تَسْتحيل بَسْمته دمعًا . غريبةٌ هي أطواره ،و غَريب أنّك لم ترَ الحياة تسْري فِيه حين مجِيئك . تنقشِع غَشَاوة العتاب عَن عيني،فأبْصرك كَما لوْ أني أراك أول مَرة ،كأنك وربّي قَميص يوسف ،رَددت للرّوح بَصرها بعد أنْ كانَت ضريرة .
أما حدّثوك عني حين أتلوّى مِن شِدّة الوَجد ،فَيُسْرج الشغف جمراته ، و يُضرم نَاره في قُصَاصة دَمي . يَفُور الحنينُ في مَسَامَات جلْدي ، أتكوّر علَى ذاتي ،تصْطَك فَرائِسي .غَليان في وريدي ، بَرْدً يعْصِفُ بأوْصَالي، كالمحْموم ،تدثّرني بعْض ذكرياتنا ،غيْر أنّ ريح الغِياب تصْفعني بكفّها .
و تنزَع عنّي غطائي .تصْرَخُ فيّ روحي هاتفةً :أيْنك لتزمّلني ؟فقد جمّد البعْد دَمي .
ما حدّثوكَ عَنْ فراغ يَضيقُ في غِيابَك، تملأ تَجَاويفه زفَرات رُوح متَصَاعدة كَدخان في سَماء الوجْد.تبسط سحابها الرّمادي غِشَاوة عَلى عَيني .تحْجبني عَن رؤية سِواك . فلا أرَى في كَبد السّماء شمْسا إلاك ، أسمع اسمْك في أحَاديث العَابرين ، و ألمحُ طيفك بيْن ثنايا المارين.
يا أنت ،يَلُوكني الغِيابُ ، و يطْرحني عَلى كَفّي الوجع ،يفْركني الأنين ،و تتبعْثر حَواسي شَريدة في انتَظار لحْظة تطلّ فيها عليّ ليلتَم شملي ،و يَسْري الدم في دمِي .و تنهضَ الرّوح في جَسَد تَثاقل دَبيبُ الحَياة فِيه منْ فَرط الحَنين .
يا أنتَ في غيابك أتحسّس قَلبي في صَدري .هَل هُو باق فِيه أم غَادرهُ معَك ؟
فمُذْ أحْببتك صِرتَ صَاحبه بعْدي ، فلمّا احترفتَ الرّحيل خِلتُه قفز مِن بين ضُلوعي ليَخْتبئ في جيْب سترتِكَ ..
يا أنت حُضورك يُبعثرني أمّا غِيابك فيفقدني كَينُونَتي ..
بالأمْسِ كَان يمْلؤني حُضُورك ،أمّا اليَوم فَضَاق فُؤادي بأنْفَاس الغِياب.و مَا عَاد للقَلْب صَبْر.فقد أثقلَتْ كاهِلَهُ صَنَاديق أشْواق عجّت بمَا فيها.و لم تأتِ أنتَ لتفْرغَها فِي كفّيكَ بَوْحًا و شَغَفًا
و روحًا تَرْتبَكُ بَينَ يَدَيك .تنْثُر زهْر اللّوز عَلى رَاحَتيْك ،و ودّت لو تسْكُب في روحِك مِنْ رُوحِهَا مَا يَضيفك أعْمَارا الى عُمْرِك لَو اسْتطاعَت إلى هَذا سبيلا . لَكنّك اتّخذت الغيابَ خَليلا، مَا ملّ أحَدكُمَا صَاحِبهُ ،
و مَا استْطعت أَنا على هجْرك صَبْرًا ،فضَاقَتْ عَبَاءة الصّبْر عليّ حَتىّ تَفَتّقَت ،فَبَدَتْ من الثّقُوب عَنَاكبُ الحَسَرات، و قَدْ نَسَجت بِيِوتهَا لَوْعَات الأسَى ،و أبْلاها سَيْل عَرِم فَاضَ منْ مُقْلَتي.
ماعَاد للقلْب صَبر يَرْتديه حبن البأس،و لا أمَل فيك يتّخذه وشَاحا يقيه صَفعَاتِ الظّنون .كمْ انتظرتك علَى قارعة الذّكريات ؟لتكسر حَاجز اللاّمدى و تعود اليّ كمَا عهَدتك قبْلا ، لكِن هَيْهَات، هَيهاتَ يَلْتئم جُرح غَائر في صَدر المرآة .
و تأتيني مثقلا بكل شيء .فارغة روحك من حفنات الشوق ،تبتغي مني جرعات عشق ،
أ نسيتَ أن في العشق كما تعطي تنال ؟ لكنك ترفض قولي و تصرخ في وجه الحقيقة هاتفا ، مَلعُون مَنْ نزَغ بَيْني و بينَك ، آثم مَشّاء بالنميم ،
يا أنتَ ،بَريئة مِنْ عِشْقنا المهْدور ألْسِنةُ الوشَاية ، بَرَاءة الذّئب مِنْ دم يُوسف ..وحْدَك المُذْنِبُ الآثم ، تجرَّعْتَ الغِياب حَتّى أدْمَنْتـَه .فَلا تُلْق بِذَنْبك عَلَى من سواك .. هَذا الغَِيَاب قَصَمَ ظَهر الصَّبر المُنْهَك في ضُلُوعي ، وَهَنَتْ قِوَاي،و هَرمَتْ قصّتنا قَبْل الأوَان.فساعدُ العشْق تَآكَلَتْ عِظامه حِين نَخرتْهُ سُوسَة مُبرّراتك الوَاهية و أكَاذيبك الزّائِفة .
فاحمِْل زُورَكَ وَ عُدْ منْ حَيثُ أتَيْت ،فَبعْد أن ْكَان الغيابُ يجْعَلُني مُكْتَظّة بحَنين يَضِيقُ منهُ الفَضَاء ،أضْحى حُضُورك مكْتضا بِعتَاب
و هَوَاجس ضَاق بها فِضَاء الغَرَام.فانظر ما فعَل الغِياب ،أغْرقَ ذاكِرتي فِيك حدّ الامتلاء، أفْرَغَ رُوحِي منْكَ حدّ اتّسَاعَ الفضاء .