هَـلْـوسَـاتُ فَـقْـدٍ
مع كل قطرة مطر نازف من جرح الغيم ، ليضمد شقوق الأرض ، يتساقط علي وجهك البريء كالفطرة ، الوضاح كاسمك ، وأنا المختبئ خلف جدران التناسي أحاول عبثا إشعال وهم فرح. لازلتُ كما تركـتَـني ، أتـَشَمَم أشياءك الرضيعة ، ألوكُ صورك المغمضة العينين. ولا زلتَ كما تركـتـني ، بثغرك الذي أفلت ثدي الدنيا وبعد لم يأخد كفايته من الحياة. وعينيك الصغيرتين اللتين لم تتسعا بعد لكل الوجوه.
هاهو عصف قسماتك يهب ليؤجج جمر الفقد في كبدي ، ويقتلع أزهارا اصطناعية زرعتها بعيد رحيلك لأخفي ندوب قلبي عن قلب أم تتطلعُ إليَ مرآة لـتـتـحسس صبرها.
يباغتني اسمك المشتعل في يقظتي وحلمي ، الساكن في ليلي ونهاري ، وفي كبد السماء ليلا . يقيدني إلى سارية الذكرى الشائكة ، وينهال علي بسوط الوجع.
بين شروق وغروب أمضي أيامي هاربا منك. وبينهما أيامك التي أومضت ولم تزهر. كيف أهرب منك ، وأنا أصحبكَ ظلا وأحملك في رئتي أنفاسا بعدد نبض القلب . .بين شروقك وغروبك بقيتُ أنا ساعياً ، ومضيت أنت طيفا متعجلا يخشى أن تأخذ له الحياة صورة تذكارية ، أو يغرم بها فتُرهِقُهُ لُهاثا خلفها.
بين ربيعك وخريفك ، قصة قصيرة جدا جدا ، بقفلة قاتلة جدا ، قصة لم تتسع سطورها لباقي فصول الرواية ، ولم أهنأ في كلماتها القليلة بتفاصيل براءتك. ولم تُكمل براعمكَ دورة حياتها الطبيعية. حتى صمتك المفاجئ لم يمهلني الوقت للشفاء من كل الأسئلة ، فكتمتها فيَ داءاً عاصفا في صمت. وسعيرا يفتت أوارهُ جلاميد تجلدي.
بين صمتك المفاجئ ، الموجع حد الصراخ، ووجعي الصارخ حد انكتام النفس ، يتردد صدى سؤال حاد يقص جوانح فكري : لماذا ؟
لماذا دعوتني إلى فناء فرح فسيح ، ثم غادرتَ مسرعا قبة الوجود من باب سقمٍ خفيٍ وحدك من عرفه. فكتمتَه سرا قاتلا في جسدك الغض ، إلى أن اخذته معك أو أخذك معه. ولم تتركا لنا إلا الأسئلة.
أما راقك طعم الحياة في حليب أمك ؟ أ تراك وجدت فيه مرارة ؟ فكيف يكون ذلك وأنا الذي كنت أنأى بها عن فناجين قهوتي الخالية من سكر العيش ؟ وأرسم على وجهي بكل أصباغ الغبطة والسرور ، ابتسامة عريضة كلما رجعت إلى البيت ، خشية أن يتسرب إليكَ إحساسُها بي فتصابَ بداءِ المرارة !؟
كيف يكون ذلك وقد حرصتُ خلال مقامك في رحم انتظارنا أن لا يصلك من ثمار الحياة إلا ما طاب وحلا ! ؟
أتراهم الحساد والوشاة أوقعوا بيننا ؟ أتراهم أخبروك أنني بَحْري المزاج ، صحراوي القلب ؟ أتراهم أخبروك أنني لا أصلح للأبوة ؟
كنت لتسأل الياسمينة عني ! فأريجها وابتسامتها بعض من أبوتي . الياسمينة التي رفرفتْ فراشةً زاهيةَ الألوان حول ضياء وجهك ونغم ابتسامتك ، فأحرق رحيلك أجنحتها وامتص بريق ألوانها. أخيتـكَ التي طالما عادت من المدرسة باكية كبرياءها الذي ضاع في معارك طفولية خاسرة ، شاكية غياب أخ يناصرها في الزمن التحالفات. فلما سطعت بدرا في سمائنا ، راحتْ تتوعدُ أقرانها بانتقام قاسٍ ، فكان خذلانك لها أشد قسوة.
لا يزال جرحي يتجدد كلما استفسرتني عن سبب طول غيابك ، و لا زلتُ أؤجل جرحها وأخبرها أنك آثرت المقام في مكان آمن ، جميل ، فسيح ، طاهر ، تنعم بالحلوى الوافرة والألعاب الكثيرة. وسنذهب إليك بعد زمن.
أمنع عنها حقيقة ً لا قبل لذكائها و قلبها الصغيرين بإدراكها ، فترميني بمُنْيةٍ تفطر القلب في براءتها. ترفع كفيها ، وتطلب الله أن يأخذها إليك الآن الآن . لتشاركك اللعب والحلوى وتقاسمك النعيم الذي أنت فيه.
بين حقيقة أنك كنت حقيقةً ، ومرارة أنك لم تعد إلا صورة ، سأبقى مقيما بين وهج الصورة ووجع الذكرى أهيم بأسئلتي.
بين استهلالك وأفولك ، كنتَ قطعة فرح لم تدمْ إلا حلما ، لتذوب سريعا في حضن الثرى . ولم تُبق لي غير شهادة ميلاد تثبت أنك لم تكن حلما. وشهادة وفاة تصرخ في وجهي أن موتك حقيقة.
ما أجملك بني ! وما أقسى موتك ! وكأن الموت لم يخلق إلا معك. وكأنك أتيت لتعرفني معنى الموت وترحل.