يحكى - يا سادة يا أهل المقام - جعل الله طيركم غنام وأنزلكم ديار الكرام
أنه كان في زمن قريب مضى
رجل يدعى ابن منقاش
عاش شبابه وصباه في دياره وبين ربوعه على أجمل حال وأكمله
وأحب فتاة من قومه باهرة الجمال وتجيد فن الدلال
وجمع الله بينه وبينها في أجمل لقاء وأمتع هناء
وعاشا سنوات حلوة العيش فاتنة العشرة لذيذة الهوى حتى ألم به قدر مؤلم
وداهمته فتنة عمياء وأصاب دما في عشيرته
فخرج يهيم على وجهه والخوف من أهل الدم يهيمن على أركان قلبه وترتعد منه فرايصه
والشوق للحبيبة ومرابع الصبا يعصر فؤاده المكلوم
ولبس بدلا عن ثياب العز والنعمة (همايل ) العمل والخدمة
حتى أتى مضارب شيخ يدعى( أبن عدوان) وتظاهر أنه درويش يبحث عن عمل ويعرف أسرار الخدمة
ووظفه ابن عدوان راعياً لغنمه وخادما له
وكان من عادة أبن عدوان أنه يقوم من نومه قبل طلوع الفجر حيث
زوجته الحسناء قد (شبت) النار وصنعت القهوة الشقراء
وبعد (القدوع) يؤذن في مسجده البري ويصلي بمن معه ثم يعود على (دواره ) ليقرأ أذكار الصباح
ويكحل عينيه العسليتين بكحل الأثمد ويتابع الخدم والرعاة
وهم يحلبون الشياه ويرضعون صغارها ثم يسوقونها إلى المراعي وموارد المياه
ويتفرغ هو للحديث مع زوجته التي تعادله في النسب والمقام
وتملأ حياته بعذب حديثها وجمال صورتها
ثم ينتقل إلى مجلس الشياخة لينصف المظلوم ويردع الظالم
ويستمع للحكماء والمسافرين وضيوف الديار عن كل جديد ومفيد
لاحظ أبن عدوان أن خادمه أبن منقاش يسبقه إلى شب النار وإلى الأذان وأنه يكتحل كما يفعل عمه
وبعد ليال راودته الظنون ولعب في فكره العدو المتربص (الشيطان الرجيم)
وخشى على زوجته من أن تعجب بخادمها هذا ويفتنها حسن صوته وطيب هيئته وحذاقة تصرفه
عندها تظاهر ابن عدوان أنه يريد السفر إلى أرض بعيدة وأوصى زوجته
وخادمها أبن منقاش بالعناية بالبيت والحلال أثناء غيابه
وودعهم ثم ركب ذلوله وسار حتى غاب عن البيوت
ثم أقام حتى غطى الليل الحنون مضاربه وربوعه الحبيبة لديه
عندها تسلل إلى فراش الزوجة وهي نائمة وعندما حست به
سألته من أنت ؟
فقال أنا ابن منقاش
لحظتها أخذت الحرة صخرة تملأ يدها ثم ضربت بها جبهته فلاذ بالفرار
ومع طلوع الفجر سمعت المرأة ابن منقاش يؤذن في المسجد فقالت في نفسها
يا عدو الله (تضوي بالليل على فراش الحرائر وتؤذن فجرا في مساجد قومهم)
لكنها تريثت حتى عاد ابن منقاش بعد الصلاة للجلوس حول النار فلم ترى وقع الضربة على وجهه
فعرفت أنه مظلوم وإن هناك من انتحل اسمه
وبعد يوم أو يومين عاد ابن عدوان إلى بيته وأهله وتبين للزوجة علامة التخوين على وجهه
فقالت أتخوننا يا بن عدوان؟؟
قال إنه الحب والغيرة يا بنت الشيوخ
قالت إذاً انتهت صحبتنا
وغادرت بيته إلى بيت اهلها
تندم ابن عدوان على سوء نيته وشكه في أهله وشب في فؤاده حريق الفراق
ولوعة البعد عن حبيبته وجمال حياته
وأخذ يرسل لها (المناديب) من أعيان الناس وكبارهم وهي ترفض أن تعود
وفي يوم من الأيام طلب أبن عدوان من خادمه أبن منقاش أن يذهب إلى عمته
ويطلب منها العود والعفو عما سلف وكان
وافق ابن منقاش على الذهاب إليها بعد أن عاتب عمه على تخوينه وتخوينها
وبعد جدال طويل مع المرأة قالت طالما تنازلت أنت عن حقك وأنت الرجل والغريب
فأنا أولى بالتنازل لزوجي وشريك حياتي
وعادت الزوجة وسط أهازيج الفرح وفاخر الولائم وسعادة الجميع
عندها كشف ابن منقاش عن حقيقته وقال أبيات هزت مشاعر الحضور وأبكت النساء في خدورهن
..............
يقول ابن منقاش وانا من قبيلة
طعانة في شرهه ما هم بذلان
إن كان تشكي من ثمانين ليلة
فقد لي ثمان اسنين والقلب وجلان
ولي ورا مطمى سهيل حليله
غض النهد يا زينها يابن عدوان
عذويت عنها بالرماح الطويلة
عذواي ظميان على جال غدران
..................
قالوا له ما قصتك يابن منقاش
قال أنا ابن شيخ ومن رؤوس قروم عوادي وكنت في دياري ومع حليلتي في خير عيش وأنعمه
ثم قدر الله وأصبت دما في عشيرتي وبعدها هربت إلى أن وصلت إلى دياركم وكان هذا حالي
نادى أبن عدوان في قومه وقال علينا من ضيفنا هذا (ملام) وأنا أرى أننا نجمع دية المقتول
ونذهب مع ضيفنا إلى عشيرته ونطلب منهم الصفح وأخذ الدية أو واحد من بدلاً عنه
فإن أبوا حمينا ضيفنا وعدنا به
وافق الجميع وجمعت الدية وذهب الشيخ أبن عدوان مع ثلة من كبار عشيرته ومعهم أبن منقاش
ووفدوا على أهل الدم وقصوا لهم القصة
تأثر ربع ابن منقاش بالموقف وأعلنوا تنازلهم عن ابنهم ورفضوا أخذ الدية وهي عبارة عن مائة من الإبل
عندها قال أبن عدوان إذاً هذه الإبل هي حلال عليك يا بن منقاش
وهكذا عاد الشريد إلى دياره وحضن حبيبته بعد فراق مؤلم وغربة موحشة وذلة في ديار الاغراب