قال الإمام ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين (5/ 234) في أثناء حديثه عن الحيل:
"لابد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر
ــ وهو النصيحة لله ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل
ــ والثاني معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفى عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم
فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما فلا نؤثم ولا نعصم، ولانسلك بهم مسلك الرافضة في علي ولا مسلكهم في الشيخين بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة فإنهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للأسلام وإنما يتنافيان عند أحد رجلين جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولايجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين
قال عبد الله المبارك كنت بالكوفة فناظروني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي بالرخصة فإن لم يبين الرد عليه عن ذلك الرجل بسند صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بسند فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله ابن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينتبذ له في الجر الأخضر قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى فقال قائل ياأبا عبد الرحمن فالنخعى والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند المناظرة تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن تكون منه زلة أفيجوز لأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا خيارا قلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد قالوا حرام فقلت إن هؤلاء رأوه حلالا أفماتوا وهم يأكلون الحرام فبهتوا وانقطعت حجتهم ...
قال شيخ الإسلام وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا وله أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة
قلت وقد قال أبو عمر بن عبد البر في أول استذكاره
قال شيخ الإسلام وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ اتباعهم فيها قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا ...
وقال زياد بن حدير قال عمر ثلاث يهدمن الدين زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون ...
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم قلما يخطئه ان يقول ذلك الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والاسود والاحمر فيوشك أحدهم ان يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا كيف زيغة الحكيم قال هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فانه يوشك ان يفيء ويراجع الحق وان العلم والايمان مكانهما الى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما ...
وعن ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله ص - فيترك قوله ثم يمضي الأتباع ذكر ابو عمر هذه الآثار كلها وغيره
فإذا كنا قد حذرنا زلة العالم وقيل لنا إنها من أخوف ما يخاف علينا وأمرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها وإلا توقف في قبولها فكثيرا ما يحكى عن الائمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الاتباع على قاعدة متبوعه مع ان ذلك الامام لو رأى انها تفضى الى ذلك لما التزمها وايضا فلازم المذهب ليس بمذهب وإن كان لازم النص حقا لان الشارع لا يجوز عليه التناقض فلازم قوله حق وأما من عداه فلا يمتنع عليه ان يقول الشيء ويخفى عليه لازمه ولو علم ان هذا لازمه لما قاله فلا يجوز ان يقال هذا مذهبه ويقول ما لم يقله وكل من له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الائمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدين تيقن انهم لو شاهدوا امر هذه الحيل وما أفضت اليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها
ومما يوضح ذلك ان الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل واخذوا ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي وأصحابه لرجعوا عن ذلك يقينا فإنهم كانوا في غاية الانصاف وكان احدهم يرجع عن رأيه بدون ذلك وقد صرح بذلك غير واحد منهم وإن كانوا كلهم مجمعين على ذلك قال الشافعي إذا صح الحديث عن رسول الله فاضربوا بقولى الحائط وهذا وإن كان لسان الشافعي فإنه لسان الجماعة كلهم ومن الاصول التي أتفق عليها الائمة ان اقوال أصحاب رسول الله المنتشرة لا تترك إلا بمثلها
يوضح ذلك ان القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسالك الاجتهاد إذ لو كان من مسالك الاجتهاد لم يتكلم الصحابة والتابعون والائمة في ارباب الحيل بذلك الكلام الغليظ الذي ذكرنا منه اليسير من الكثير وقد اتفق السلف على انها بدعة محدثة فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه ولا يجوز الدلالة للمقلد على من يفتى بها وقد نص الإمام احمد على ذلك كله ولا خلاف في ذلك بين الائمة كما ان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ولا يجوز تقليد بعض المدنيين في مسألة الحشوش وإتيان النساء في أدبارهن بل عند فقهاء الحديث ان من شرب النبيذ المختلف فيه حد وهذا فوق الانكار باللسان بل عند فقهاء أهل المدينة يفسق ولا تقبل شهادته
وهذا يرد قول من قال لا إنكار في المسائل المختلف فيها وهذا خلاف إجماع الائمة و لا يعلم إمام من أئمة الاسلام قال ذلك ...
وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الانكار إما ان يتوجه الى القول والفتوى او العمل
أما الاول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله
وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة او اجماع وجب إنكاره بحسب درجات الانكار
وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقص حكم الحاكم إذا خالف كتابا او سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا
وإنما دخل هذا اللبس من جهة ان القائل يعتقد ان مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم
والصواب ما عليه الائمة ان مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الادلة او لخفاء الادلة فيها ...
وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الاحاديث والاثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره وقلد من نهاه عن تقليده وقال له لا يحل لك ان تقول بقولى إذا خالف السنة وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولى وحتى لو لم يقل له ذلك كان هذا هو الواجب عليه وجوبا لا فسحة له فيه وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلا اتباع الحجة". بتصرف