صَافَحتْ نَسَماتُ كَانُونَ البَارِدةُ وَجهَهُ مُسترْخِيًا فِي المقعَدِ الوَثيرِ لسيَّارتِهِ الفَارهَةِ وهي تَتهَادَى بِحِرصٍ على الطَّريقِ القدِيمِ الضَّيِّقِ لقَريَةِ الصَّيادين. كَانَ ثمَّةَ ابتِسَامةُ رِضَا تَسترِيحُ على وَجهِ الشَّيخِ الوَقُورِ وَهوَ يَستَعيدُ مَا وفَّقهُ اللهُ فيهِ منْ إصلاحِ ذَاتِ البَينِ وَحِفظِ عِلاقَةِ القُربَى بَينَ أَخَوين فَقِيرين منْ أهلِ القريَةِ بِما حَباهُ اللهُ من حِكمَةٍ وَثَرَاءٍ. إِنَّهُ دَيدَنٌ اعتَادَهُ منذُ أمَدٍ بَعيدٍ ضِمنَ أنشطَةٍ كَثيرةٍ يقومُ بها لا يرتَجِي بها إِلا وَجهَ اللهِ ورِضَاهُ ما كلَّفهُ هذا منْ جُهدٍ ووقتٍ ومَالٍ.
- تَوقَّفْ!
ارتبكَ السائقُ من صَيحةِ الشَّيخِ المُفاجئَةِ فالتفتَ إليهِ مُضطرِبًا لِيجِدَهُ ينظرُ إلى جانبِ الطَّريقِ الأَيسرِ.
- اذْهَبْ وَائْتِنِي بِهِ!
بخُطواتٍ حائرةِ أسرَعَ السائقُ نحوَ مستَودَعِ القُمَامَةِ.
- مَا هَذا الذِي تَفْعَلُ؟
- لمْ أفعلْ شَيئًا يا سيِّدِي!
- قَدْ رَأيتُكَ بِعَينِي فَأَخبرْنِي بِالحَقِيقَةِ
ارتبكَ ذاكَ قليلا ثمَّ قالَ متلعثِمًا:
- لا أعلمُ عمَّ تَتحدَّثُ سيِّدِي ، لمْ أفعلْ شيئًا سِوى أّنِّي كنتُ أبحثُ عن بقَايَا طعامٍ هُنَاكَ فَأقيمَ بِهَا صُلبِي؛ أَنَا فَقِيرٌ منبُوذٌ وَأهلُ القريَةِ لا يَثقُونَ بِي وَيخشَونَ بَوَائِقِي كَمَا يَقُولونَ فلا أجِدُ بينهمْ مكَانًا لِرزقٍ وَلا مِنهُمْ مَكانًا لِعطْفٍ.
- مَا اسمُكَ؟ وَأينَ تسكُنُ؟
- سَائِد يَا سيِّدِي ، وَلا أَملكُ بَيتًا. أَنَامُ هناكَ تحتَ ذلك الجِدارِ قُربَ مجمعِ القمَامةِ بِرفقَةِ كَلبِي الهَزِيلِ هذَا.
التفتَ الشَّيخُ نحوَ الكَلبِ بِطرفِ عَينهِ وَصمَتَ قَليلا يُجاهِدُ دَمعَةَ إِشفَاقٍ تُرَاوِدُ عَينَيهِ ثمَّ قَالَ:
- اركَبْ معِي ولا تَخْشَ ظُلمًا ولا هضْمًا!
ارتَبكَ وهوَ يُقلِّبُ عينيِهِ بينَ السيَّارةِ الفارِهَةِ وَثِيابِهِ الرثَّةِ القَذِرَةِ فشجَّعهُ الشَّيخُ بنظرةِ وُدٍّ وعطفٍ فجلسَ إلى جانبِهِ كَسِيرًا مُنطوِيًا عَلَى كَلبِهِ.
*********
جلسَ الشيخُ ذاتَ فسحَةٍ بعدَ عصرِ يومٍ ربيعِيٍّ في شرفَةِ قَصرِهِ الشَّامخِ فوقَ التَّلةِ المُطِلَّةِ على عِدَّةِ قُرَى تَناثَرَتْ في الأودِيَةِ المُحيطَةِ يَرقبُ البُستانِيِّ مسرُورًا بما يقومُ بهِ من عمَلٍ حثيثٍ وَحِرصٍ واضحٍ على أنْ تكونَ حديقةُ القصْرِ خَضراءَ نَاضرَةً وأنْ تكونَ شَجَراتُهَا ذاتَ ظِلٍّ وثَمَرٍ. هَا مَرَّتْ أعوامٌ ثلاثةٌ منذُ عيَّنَهُ فَلمْ يَفتَأْ مُكبًّا عَلى عملِهِ بِاجتِهَادٍ وَالتزامٍ شَاكرًا أَنْعُمَهُ وَغيرَ مُصدِّقٍ أنَّهُ باتَ يجِدُ المَأكلَ والمَسْكنَ في قصرٍ منيفٍ وأَنَّهُ يجِدُ الرِّعايةَ وَالعِنايَةَ كُلَّما رَأَى الشَّيخُ مِنهُ خَيرًا وَصِدقًا.
لقَدْ قرَّرَ أنْ يمنَحَهُ المَزِيدَ منَ الصَّلاحِيَاتِ.
جفَّفَ سَائدٌ عَرَقَهُ وقالَ:
- هذَا كثيرٌ يا سيِّدِي. قَدْ أكْرَمتَنِي كَثِيرًا؛ آوَيتَنِي وَاجْتَبيتَنِي وَرَفعتَنِي فوقَ منْ كانُوا يَرَونَنِي دُونَهُمْ ، وَلَقدْ كُنتَ رَفَّعتَنِي منذ مدَّةٍ قصيرةٍ لأكونَ مسؤُولا عنِ الحَديقَةِ وَإِسطَبلِ السَّيارَاتِ وَأَعْتقِدُ أنَّ هَذَ.....
- بلْ أنتَ تَستَحِقُّ هَذَا وَأكثرَ بِمَا أَرى مِنكَ منْ جديَّةٍ والتزَامٍ ووَفَاءٍ للقَصْرِ وأهْلِهِ، وإِنِّي أرى أنْ تَكونَ المسؤولَ الثانِي بعدَ مُديرِ القَصرِ وَأَعلمُ أنَّكَ لنْ تُخيِّبَ ثِقَتِي وَلنْ تَخْذِلَ ظَنِّي.
- أشكُرُكَ يَا سيِّدِي وأمتَنُّ لكَ، وَثِقْ بأنَّني سَأكونُ كمَا تُحِبُّ. فَضْلُكَ عليَّ وعَلَى غَيري لا يُنْسَى وَإنِّي سَأفْتَديكَ بنَفسِي وَسَأقُومُ على خِدْمَةِ هذَا القَصْرِ مَا حَييتُ.
*********
- أنتَ مُجرَّدُ سائقٍ ولا تُدركُ منَ الأمُورِ شَيئًا. وَلا يعنِي أنَّني إذْ عوَّدتُكَ مُسامرتِي أنْ تَنسَى قَدْرِي وَتتَجَاوزَ فِي حَديثِكَ معِي.
- لمْ أتَجاوزْ ولَمْ أتَجَنَّ. إِنَّما تحدثْتُ معَكَ بِلسانِ الصَّدِيقِ وَالزَّمِيلِ ليسَ إِلا. الشَّيخُ أَكرمكَ وقَدَّمَكَ على غيرِكَ؛ فَأَنا أَقدَمُ منكَ فِي هذَا المَكانِ وهَا أنتَ أصْبحْتَ مسؤُولا عنِّي وعنْ غيرِي ، أَما تَرى أَنَّه لا يردُّ لكَ طلبًا وَلا يحرِمُكَ من أمْرٍ؟ بلْ لقد باتَ من عظيمِ ثِقتِهِ بكَ يَعملُ بِرَأيِكَ وَيُراعِي أمْرَكَ وَيَنتدِبُكَ لِتقومَ مَقَامهُ بينَ النَّاسِ.
- قلتُ لكَ لا تَتَجاوزْ قَدْرَكَ! واعلمْ أنَّ الشَّيخَ لا يستطيعُ أنْ يستَغنِيَ عنِّي بلْ ولا يستطيعُ أنْ يُدبِّرَ أمرَهُ بِدُونِي وَلَنْ يَجِدَ يومًا مِثلي، وإنِّي أَوفَيتُهُ سَنَواتٍ خَمسًا وَلمْ أَجِدْ مِنهُ المُقابِلَ المُستحَقَّ. أَما ترى إلى حيثُ يسكنُ والمُدِيرَ في ذَلكَ القَصرِ الفارِهِ، وَأَسكنُ أَنا في هذَا المَبنَى الجَانِبيِّ فِي الحَديقَةِ. هَذَا ليسَ بِعَدلٍ وَلا يَكُونُ الوَفَاءُ هَكَذَا أَبَدًا.
- أتطعنُ في ذِمَّةِ الشَّيخِ وَعدْلِهِ وهوَ منْ يَشْهدُ لهَ النَّاسُ بِالعدْلِ وَبِالحِكمةِ؟؟ أَتتحَدَّثُ عنِ الوَفَاءِ وَأَنتَ مَنْ عَقَّ العَطفَ وَعَضَّ الكَفَّ؟؟ مَنْ يَفِي مْنْ؟؟ ثُمَّ هلِ الوَفَاءُ عندَكَ قِيمَةٌ تَتغيَّرُ بِالرِّضَا والسُّخْطِ؟؟ أَنتَ تعلمُ خُلُقَهُ وَأجدَرُ النَّاسِ بِالوَفَاءِ لهُ، وَاذْكُرْ إذْ كُنتَ منبوذًا مُستَضعَفًا تأكُلُ منَ الفَضَلاتِ فَآواكَ وَنصَرَكَ وَرفَعَكَ بينَ العَالَمينَ.
- إِيَّاكَ أنْ تُذَكِّرنِي بِمَا كَانَ! مَنْ أنتَ لِتتحدَّثَ معِي عن مَعَاني الوَفَاءِ؟؟ إنَّهُ خَطَئِي إذْ تَنَازلتُ فَحدَّثْتُ أمثالَكَ.
- بلْ دَعنِي أُحدِّثكَ عنْ قصَّتي مع الشَّيخِ فَتعلمَ ما تجْهَلُ وَتعِيَ مَا أنْتَ منهُ تَحِيدُ. لقَد انْتَشلَنِي هَذَا الشَّيخُ منَ الضَّياعِ وَإدْمَانِ الخَمرِ يومَ فَقَدتُ وَظيفَتِي وَمَاتتْ أُمِّي وَاستولَى عَمِّي عَلى البَيتِ. وَلَمْ أدركْ حكمَتَهُ حينَ عيَّننِي سائقًا إلا حينَ وجدتُنِي مضطَرًا للتوقُّفِ عن الخَمرِ في سَاعاتِ العملِ وَالقِيادةِ. ثُمَّ إنَّهُ أكْرَمَني بِالمالِ وَبِالحنوِّ حَتَّى لقَد بت أسْتَحيي أنْ أشربَ الخمرَ في أيِّ وقتٍ أو أيِّ مكانٍ فَأُسِيءَ إلى مَكانَةِ الشَّيخِ أو سُمعَةِ القَصرِ فَحَرَّمَتْهَا عَليَّ أَخْلاقِي لا مِلَّتِي.
- إليكَ عَنِّي فَقَدْ مَللتُكَ ، ولا تَعُدْ للحديثِ معي مرةً أخرى فَأُؤذِيَكَ.
*********
لمْ يلتفتْ الشَّيخُ الطَّيبُ كَثيرًا إلى تحذِيرَاتِ مُديرِ القَصْرِ بِأَنَّ سَائِدًا هَذا لا يُؤْتَمَنُ وَأَنَّه يُكثِرُ التَّهامُسَ المُرِيبَ مع بعضِ عُمَّالِ القصرِ والعديدِ من زُوَّارِهِ. كَانتْ ثِقَتهُ بِهِ وَبِمَواقِفِهِ السابقَةِ تُقَلِّلُ فِي عَينهِ مَا تَحملُ سَهَراتُهُ المُريبةُ خارجَ القصرِ مؤخرًا وبعضُ تصرفَاتِهِ غيرُ المعتادَةِ مِنْ ريبةٍ وَقَلقٍ، فَمَا انفَكَّ يُكرِمُهُ وَيرفَعُهُ وَيُقَدِّمُهُ حَتَّى طَغَى سَائدٌ وبَاتَ يرَى نفسَهُ أَحْكَمَ منَ الشَّيخِ وَأَكْرَمَ، وَأحْلَمَ مِنهُ وَأعلَمَ. وَفِي مَسَاءِ ليلةٍ مُعتمَةٍ ذَهبَ مديرُ القصرِ فيها لزيارَةِ أهلِهِ فِي إِجَازَةٍ قَصِيرةٍ أَحكَمَ سائدٌ الخِطَّةَ إذْ سوَّلَتْ لهُ نفْسُهُ قَتلَ الشَّيخِ؛ فَتَسلَّلَ مِنْ خَلفِهِ وَهوَ قَائمٌ يُصلِّي وَقدْ أمْسَكتْ كَفُّ الغَدْرِ بِخِنجَرِ العُقُوقِ لِتغرِزَهُ فِي ظَهْرِ مَنْ كانَ ظَهْرَهُ.
أَنهَى الشَّيخُ صلاتَهُ مُستعجِلا بعدَ أنْ عَلَتْ خلفَهُ جَلَبَةٌ كبيرةٌ وصراخٌ مُدَوٍّ، وَالتَفَتَ لِيَجدَ الكَلْبَ السَّمِينَ وَقَدْ أَحْكَمَ فَكَيّهِ على عنُقِ سَائِدٍ جُثَّةً هَامِدَةً وَالخِنجرُ مُلقَى إِلى جَانِبِهِ فِي بِركَةٍ منْ دِمَاءٍ.