يا..أنْت جون
توسطت الشمس السماء. فتوهجت المدينة، وإرتفعت درجة الحرارة وصار الجو غائظاً، وكميات من العرق تنهمر من الوجوه المكفهِرّة ، والأجساد تهرول كما الأشباح وسط الزحام. وأصوات الباعة ينادون: جَلبناهُ بالطياره وبِعناه بالخساره هَلُمّوا كل شى... وا...ها..واك..ساك.. جاك
لهجات مختلفة ترِن فى أذنىّ. وأنا أسرع الخُطى حيث الشاحنات فى أطراف المدينة. تقلّنى إلى بلدتى فى الجنوب . لقد علمت اليوم من رسول بعثه أبى أنه أصيب بالعمى اصبح قعيد فى المنزل. أ نا ابنه الوحيد قدمت للعمل فى هذه المدينة الملعونة. عملت فى خدمة المنازل سنوات. لم أرى أبى منذ مغادرتى الديار. هزنى نبأ فقدانه بصره، حزمت أمرى وأخبرت الأسياد الذين أعمل فى خدمتهم برحيلى. نقدونى مبلغًا من المال يُعِيننى فى جلب أبى للعلاج. فسابقت الريح أُمنّى نفسى بالوصول إليه لازف له بشرى علاجه .لابد أنه يعيش فى ظُلماتٍ تأكل الحسرة قلبه.إن أبى رجل مُحب للحياة فكيف لا يرى، كل هذه المشاعر تَمور فى داخلى كما التنّور، تصيبنى بحرقةٍ فأتجاهل الزحام وأسرع الخُطى.
كنت اسرع إلى الأمام واجد نفسى كأنى لم أتحرك، فهذا السّيل المتحرك من البشر والغبار الذى تثيره أقدامهم، يختلط بعرقهم فيطمس ملامح وجوههم.فيصبحوا متشابهين، يتلاطمون ويتعثرون فى سَيرهم، حتى لاتجد منفذ يجعلك تُسرع قيّد أُنملة، تميل شمال تصطدم بامرأة حامل تحمل طفلاً بين يديها، وآخر داخل بطنها يحتل مساحة أمامها فيجعل تخطيها أمرا صعبًا. تميل يمينا تصطدم بمتسوّل أعمى يقوده طفل. وبيده الأخرى يحمل بقجه من أسمال متدلية من عصاة مستعرضةٍعلى كتفه .وإبريق ماء فى يده يفسح به الطريق .تنظر للأمام على مد البصر باعة متجولون. وآخرون يتحركون كيفما اتفق. يمنة ويسرة دون هدف. النشالون مُندسّون وسط هذا الزحام ينتظرون ضحيتهم ، فقدت نفسِى فى هذا الزحام. فأسرعت على غير هدى والعرق يتصبب من جسدى .وانفاسى تعلو وتهبط ،كأنى فى سباق ضاحية.
يداً ضخمه حطت على موخرة عنقى. وضغطت عليها بقوة الشُرطى. هذه اليد الباطشه أعرفها تماما فكم صفعتنى عندما كنت متشردا صغيرا حينها. ولكن الآن بعد أن رسمت جيناتى الأفريقية المشاكسة موروثاتى العرقيه فى بنيتى .حيث أمتدت قامتى طولا, وأزداد لونى سوادًا أصبحت لا أخشى هذه اليد.
التفت حين بغته وصوبت له لكمة فى وجهه. فترنح وأستعدل وقفته وهو يقاوم السقوط فاغرا فاه خرجت منه الكلمات متقطعه: يا ..يا.... أنت.. أنت جون؟ أجبته بلا ... فصاح فى وجهى:أ نت جون...لماذا تنكر أتحسبنى شرطى غبىّ.؟ وأراد أن يمد يده مرة أخرى فعاجلته بلطمه قضت على ماتبقى من توازنه ...فسقط الشرطى فتوقف الزحام..... وهرب الجميع .. إلا أنا... فانا لست جون أنا سانتينو .
هبط من السيارة رتل من الرجال. يرتدون أزيائهم النظامية، ويحملون الهراوات ويعتمرون خوذاتهم الصلبه . أنا أعرفهم ينادونهم عند ما ينفرط عقد الزحام فى المدينة ، ويتساقط الناس على الأرض. ويهرولون محدثين الفوضى. لذلك كانوا أمامى فى لمحة البرق بعد أن نهض الشرطى وصاح بهم ألا يفلتونى فأنا اللص جون نشال الزحام الهارب من العدالة . قذفوا بى داخل السيارة بقبضة الشرطى كانت يداى قد إستدارتا دورة كامله خلف ظهرى. احدث سقوطى داخل السيارة صوتا عاليا تلاشى مع إنطلاق السيارة، وأقدام الشرطة فوق ظهرى يدوسون عليى بأحذيتهم كأنى عقب سيجارة ألقى بها مدخنها على الأرض ووطأها بقدمه محملها كل ضجره.
أيقنت أن رحلتى إلى أبى قد إنتهت وأن أبى لن يرانى ببصره او بصيرته. نفسى تحدثنى وضميرى يؤنبنى لماذا لكمت الشرطى؟ أتلكم القانون؟ الشرطى وحده فقط هو الذى يلكُم .
أمام القاضى كانت الإدانة بائنة. والشهود الزحام والجرم كبير، والسؤال يتردد فى قاعة المحكمة أتلكم الشرطى من أنت؟أنا سانتينو ولست جون..ولم تسمع أقوالى.ولم يسألونى حتى عن اسمى.
الطريق متعرج وطويل، والمطر يهطل بغزارة وصوت المياه الهادرة أصابنى بالصمم. بيوت من القش تلوح فى الأفق ثم تتوارى .وأنا أجلس القرفصاء على أرض الشاحنة. تكدس المحكوميين فوق بعضهم . كان الصمت يخيم علينا وأيدينا مربوطة بسلاسل ينتهى بطبلة نحاسية ضخمة مُحكمة الإغلاق حيث يجلس الحارس ومعه بندقيته ووجه العابس.
وصلنا بعد مسيرة يوما كاملا، دون أن نتناول طعام أوشراب أنزلونا وفكوا وثاقنا فانطرحنا على الأرض كان الظلام قد حل، لفّ المكان سوادا مخيفا إلاّ من شعلة ضوءٍ ينبعث بين الفينة والأخرى من سكن الحراس..
اخرج كل شروق ومعى رفاق السجن، ينادوا علينا للإنتظام صفًا والصعود إلى السيارة التى ستقلنا الى حقول السمسم. صاح السجان:السجين رقم 213 فيجيب أفندم فيؤمر بالصعود الى السيارة مع لكزة من عصاةٍ غليظةٍ تدفع به إلى الأمام حتى يكاد ينكفئ.السجين رقم 519 فيجيب وهكذا يستمر.... حتى توقف عند الرقم 111 أين هذا المعتوه..صمت.... لامجيب أرتبك المكان. سرى همس بين السجناء. لم يعد من حقول السمسم.وسرت فى أوصالى قشعريرة من غضبٍ أكتُمه وتمتمت الآن صرت رقما؟! لم أرضى بإسم جون فصار إسمى339 رقم .. رقم... على أن أجيب عندما ينادونى به وإلا الـلكم و الصفع حتى استجيب.
انتشرنا نحمل معاوِل الحصاد والنظافة. وغُصّنا فى حقول السمسم، الخوف والهلع والحزن المقيم فى دواخلنا والحقول ممتدة. الحراس منتشرون يلكمون ويصفعون كل من تهبط طاقته أو يقف ليستجِم. ويمسح ذلك العرق المنهمر من الأجساد والشمس مشاركة فى العقاب تلهبنا بسياط اشعتها الغائظة .التى تجعل الجفاف يكسوا أفواهنا حتى لانستطيع التحدث وماء الشرب يصرف بإرادة الحراس لذلك جربت عطشا لم ألفه من قبل.
كانت سيرته لم تنتهى تَسرى الشائعات عند المساء بان الرقم 111 لم يهرب فقط إختفى فى حقول السمسم. جل ماكان يشغلنى هو إنقطاع أخبارى عن أبى الذى أخبرته بإنى فى طريقى اليه. لجعله يرى الدنيا بالوانها وجمالها وقسمات الوجوه التى يحبها مرة أخرى. ولكن قد طالت محكوميتى ولم أدرى متى يطلق سراحى. إنعزلت وصرت أفكر فى الهرب ثم أهجر هذه الفكرة المرة بعد الأخرى. قد تلاشت شجاعتى التى لكمت بها الشرطى .أصبحت كسيرا ذليلا ورقما منسيًا.
نفخ السجان على صافرته على غير التوقيت الذى أعتدنا عليه، وتعالت أصوات المزاليج التى تغلق أبواب الحراسات. خرجنا مهروليين لنستطلع الأمر، مُلبين نداء الصافرة، فلابد أنّ خطبٌ جللاً قد حدث، صاح السجا ن ملوحًا ببندقيته العتيقة التى سئمت مرافقته فبهت لونها وصدأ ت مواسيرها يستخدمها للتهديد :لقد لاحظنا تناقص أعدادكم يوما بعد ولم نستطيع إقتفاء الهاربون الرقم 111والرقم.564والرقم.298.فمن يساعد أو يتستر على هارب سيختفى هو أيضا أفهمتم ؟أجبنا بصوت واحد :حاضر أفندم ...وا نصرفنا. كان سؤالٌ ملحًا يسيطرعلينا كيف يهربوا هؤلاء فالحقول ممتدة على مدى البصر وأقرب مدينه تبعد مسيرة يوما بالأرجل وأراضى خاليه مكشوفة.
ذات يوم من الأيام المملة الرتيبة فى كل شى، حتى شروق الشمس القائظة و نسمات الهجير اللافحة.والعطش الدائم والقوى الخائرة لاشى لاشى يجعل أيامنا تختلف. إلاّ هذا اليوم فى أثناء تدافعنا وإنهماكنا فى الحصاد، سمعنا صرخة مُدويّة تدل على رُعب خرافى شقْت حقول السمسم .وسمعتها كل الأحياء.نظرنا الى حراسنا فوجدناهم يهرعون صوب مصدر الصوت. هرج ومرج وفوضى تركنا معاولنا وذهبنا لنرى ويالهول مارأينا الرقم 101 ملقى على الأرض، والدماء تسيل من فمه وأنفه و إذنيه، وإستحال لونه رماديا شاحبا، كانوا يرددون لقد لدغته الأفعى. وإنتشروا يبحثوا عنها فوجدو ا هيكلا عظميا قد جف والتصق الجلد بالعظام .وكثف البحث فوجدوا هياكلا أخرى إنهم الارقام111.564.298 لم يفروا.باغتتهم الأفعى اللعينة..كم مكثوا يتعذبون لقد سجلوا فارين.
سيارات النجدة تطلق نفيرها الإسعاف والشرطة وأناس قدموا من المدينة وإختلط الحابل بالنابل أربعة جثث فى حقول السمسم والحراس لايدرون كيف حدث ذلك . تبادلوا الإتهامات وحدثت الفوضى .وأنكشف المستورفهناك أرقام سقطت دون عناية منهم، رقم 500بضربة شمس وتركوه يعانى مستلقيا على الارض حتى فاضت روحه امام اعيننا ورقم 215 .168.234.,.... كلهم أجبروا على العمل وهم يعانون من مرض الملاريا. وحساسية الحقول وأمراض أخرى جميعهم قبروا دون أدنى مسئولية . ولكن اليوم إختلف الأمر فسكان المدينة لا يدرون مايجرى فى هذا المعسكر. الغضب كان سيد الموقف وفجاءة إشتعلت النيران وأرسلت لهيبا عاليا. يصحبه صوت مخيف. تدفعها رياح مسرعة أمامها فما كان إلا الهروب. وفر الناس جميعا، المتفرجون، والحراس والسيارات والنار تجرى خلفهم بسرعة الصاروخ المنطلق . كان الفرار الجماعى جعلنى أفر مطلقا ساقيى للريح فى إتجاة لاأعلم إلى أين طفقت أجرى حتى حل الظلام ورأيت السنة اللهب قد توارت وإختفت. جلست استجمع قواى ثم زحفت ووقفت على الطريق العام ملوحًا للسيارات والشحنات حتى توقفت إحداهما فقفزت بداخلها ولم اسمع بعد ذلك شى.اسمع فقط أصوات تسالنى عن اسمى وكنت اخشى اسمى.
اسيتقظت فى مشفى المدينة. رأيت شقيقتى وأبى أمامى وإبتسامة مشرقه تعلو وجه فتضئ دواخلى . أبى مسح على جسدى وسألنى: سانتينو ماهذه الجروح؟ فرحت فرحا شديدا إن أبى قد عاد مبصرا، وإن إسمى رن فى أذنى لقد نسيته. ونِمت على حلمٍ جميل، إختفت فيه حقول السمسم والسّجان والحارس والرفاق إلا وجه أبى وصوته ينادينى سانتينو.....سانتينو ويمسح بيده على جُرحى.
قص أفريقى