عندما يتكلّم الإله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
إن مما يجب أن نبدأ الكلام فيه ونعيده، ونكرره ونزيده، وننشره ثقافة بيننا، ونعمم الكلام عنه ونفصل الحديث حوله: إعجاز القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي تحدّى الله -تعالى- به خلقه: أن يأتوا بمثله: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)، أو بعشر سور من مثله: (أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، أو بسورة واحدة مثله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
ويجب علينا قبل أن نتأمّل في عظمة هذا الإعجاز وجلال هذا التحدّي أن نتفكّر في براعة من نزل القرآن في عصرهم، وقوّة عارضتهم، وتوقّد أذهانهم، وانطوائهم على قدر بالغ من حب الظهور والغلبة، ومع ذلك فقد خضعوا جميعاً لعظمته وأذعنوا لجلالته، ورفعوا راياتهم استسلاماً وانهزاماً، بل لقد أبهرتهم آياته حتى إن أحدهم ليسمع بشيء من القرآن فيسلم مباشرة، وقد كان قبلاً من ألدّ أعدائه، وبعضهم ما إن يسمع بآيات منه حتى تطرأ على تقاسيمه مسحة وضاءة فيقول رفاقه: لقد عاد فلان بوجه غير الوجه الذي ذهب به.. وبعضهم يسجد عند سماع بعض آياته مع بقائه على كفره وما ذاك إلا لهيمنة هذا الكتاب العزيز.. وقد قال عنه ألدّ أعدائه: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمغدق وإن أسفله لمورق وإنه يعلو ولا يُعلى عليه..
هذا كلامُ وفعلُ وتأثّرُ أمراء البيان، ومن نزل القرآن على لغتهم، ومن فاقوا أمم الأرض بلاغة وبراعة.. فقد بُهتوا بما فيه من فخامة ورونق حتى لم يدر بخلدهم وهم أهل المكر الكبار أن يقولوا آية واحدة في معارضته أو أن يأتوا بقدر سورة الكوثر كلاماً يظنون أنه سيكون مثل القرآن أو قريباً منه.. إنها هيمنة هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد..
وقد تحدّث علماء التفسير وأئمة البلاغة وعباقرة اللغة عن أسرار بلاغة القرآن الكريم، وما هي الأوجه التي كان بها القرآن معجزاً لا يستطيع مخلوق أن يأتي بمثل أقصر سورة فيه، وتنوّعت طرق طرقهم لهذا الباب الجليل.. فمنهم من وقف عند الإعجاز الغيبي، وكيف أن القرآن الكريم أتى بأخبار أمم قد انقضت ما كان عند العرب من علمها شيء، وبعضهم أطال الحديث عن الإعجاز التشريعي وكيف أن القرآن العظيم احتوى نُظماً وشريعة محكمة لا تجد فيها عوجاً ولا أمتا.. ومنهم من فتح الله عليه فجاء بما لم تستطعه الأوائل: وأعني شيخ البلاغة الإمام "عبد القاهر الجرجاني" والذي فتق الله في ذهنه فكرة " النظم " والتي خصص لها كتابه المعجزة " دلائل الإعجاز " وقدراً مما تضمّنه كتابه المذهل " أسرار البلاغة " فشقّ طريق علم المعاني الذي يعرف به المتبصّر دقائق وأسرار مما كان يدور في عقل العربي الأول وهو يسمع أحرف القرآن لأول مرة.. وكيف أنها كانت تنزل على قلبه بروعة خاصة، وبإذهال مختلف تماماً..
هذه النظريّة كانت فتحاً من الله، أبان فيها الشيخ عبد القاهر كيف أن القرآن معجزٌ من أوله إلى آخره، وكيف أنّك لو أبدلت حرفاً مكان حرف لأخللت بفخامة نظم القرآن ولأصبح البون شاسعاً بين الآية قبل التبديل وبعده..
كل ما سبق لم أكن أنوي الحديث عنه لذاته وإنما أتيت به كمقدّمة لحديث إعجازيّ لفت النظر إليه أديب العربية " مصطفى صادق الرافعي " ثم شرحه في صفحات الشيخ "محمد أبو موسى"، وإن كان "الباقلاني" قبلهم قد أشار بطرف خفيّ إليه ألا وهو الحديث عن أن القرآن لا يمكن أن يكون من قيل البشر لأن البصمات البشريّة ليست بادية عليه..
فلكل متحدّث معجم لغوي خاص به، فقارئ امرئ القيس يجد أن هناك ألفاظاً كثيراً ما يستخدمها امرؤ القيس، قل مثل ذلك في زهير والنابغة وغيرهم، فلكل إنسان سواء كان عالماً أم عامّياً معجم خاص به، تدور تعابيره حول معجمه ويدور معجمه حول معانيه.. لا يكاد يخرج عن دائرته اللغوية الخاصّة إلا فيما شذ وند..
وعادة ما يكون هذا المعجم مما يهمّ هذا المتكلّم أو مما يقع تحت الظروف اللغوية التي مرّ بها، حتى أن أصحاب الصنعات والتخصصات العلميّة تجد أن مصطلحات علومهم وصنعاتهم تدور على ألسنتهم دون تكلّف لأنها مما طال بهم ممارستها ومدارستها...
وإنّك ستجد ولا شك لكل قائل أثر من نفسه في قوله، ستجد ضعفه، وتطلّعاته، وهمومه، وأحلامه، وشيئاً من أيامه ولياليه..
يقول امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل..
هنا وقوف ينبئ عن مشي.. وبكاء ينبئ عن حزن.. وحبيب ينبئ عن قلب.. وذكرى تنبئ عن لوعة.. هنا كم هائل من البصمات القيسيّة إن صح التعبير، انفضحت هذه البصمات في شطر بيت.. فكيف بقصيدة مترعة بآثار إنسانيّة مليئة: بالحزن والألم والفرح والذكريات ؟
هذا لمّا كان المتكلم إنساناً؟ فكيف لو كان المتكلم مخلوقاً آخر؟ ماذا لو كان المتكلّم نملة مثلاً؟ هل سنجد بصمات النملة في كلامها؟ لنستمع لنملة يحكي الله كلامها وننظر: (قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون).
ألست ترى حجم النملة ماثلاً في كلامها؟ أليست صغيرةً جداً بالقدر الذي يتيح لمارّ ما أن يطأها ويحطّمها؟
ألست ترى حياة النملة الاجتماعيّة والتي لا تعيش إلا وسط قبيلة من النمل؟ تجد ذلك في ندائها الناصح: يا أيّها النمل؟
ألست ترى كيف أن للنمل مساكن خاصة وبيوت مبنيّة لا ككثير من المخلوقات التي تهيم على وجوهها، تجد ذلك في قولها: (ادخلوا مساكنكم)؟
كلمة عابرة لنملة دلّتنا على ثلاث بصمات تشي بشخصيّة القائل، فكيف لو تكلّمت النملة أكثر؟ لربّما لمحنا في كلامها شيئا كثيراً مما يدور في جمجمتها الصغيرة الضعيفة..
بل إنّك إن قرأت لزيد ستجد في كلامه ما تستطيع إن كنت به خبيراً أن ترى فيه نفس زيد وتطلعات زيد تلك التطلعات التي ستفرق بينها وبين تطلعات عمرو وتطلعات بكر.. لذلك فإن دهاقنة النقد يعلمون أن هذا البيت لا يمكن أن يقوله إلا المتنبي.. وإن كان قريباً من بيت آخر قاله أبو تمّام مثلا.. وما ذاك إلا لأن صورة المتنبي تظهر في شعره، بل صورة كل إنسان تظهر في شعره ونثره وكلامه وحتى نكته وطرائفه..
لنترك كل هذا ولنلج في كتاب الله العزيز... ولنتساءل: هل يمكننا أن نعثر على بصمات بشريّة في هذا الكتاب العزيز؟ هل يمكن أن نلمح طيف إنسان.. تطلّعات فانٍ.. أحلام طينية؟ الإجابة التي ستتيّقن منها إن قرأت القرآن جزءا جزءا وسورة سورة وآية آية وكلمة كلمة أن هذا الكتاب يخلو خلوّاً تاما من أي أثر للإنسان!! بل إن أبسط قارئ للقرآن وهو على علم يسير أيضاً بطرائق كلام البشر ليتقين من امتناع أن يقول هذا الكلام إلا رب، وقد لحظ هذا الملحظ إمام الإسلام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما سمع خرافات مسيلمة فقال: "إن هذا الكلام لا يخرج من إلّ"؟ إي لا يقوله إله..
وقد أبهرني الباقلاني - رحمه الله - عندما أتى ببعض الآيات القرآنية العظيمة ثم علّق عليها قائلا: وهذا الكلام لا تحوم حوله عقول البشر!.
أي أن العقول البشريّة لا يمكنها أصلاً أن تتخيّل مثل هذه الصور، أو أن تهتدي إلى هذه المضايق الكلاميّة التي تضيق جماجم المخلوقين عن استيعابها أو تصوّرها أو تخيّلها أو حتى توهّمها ؟
من هو الإنسان الذي يتخيل أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين؟: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما)؟ إن هذا مما لا يمكن لبشر أن يتخيّله..
قصارى فكر الإنسان أن يقول: ألقيت بالسيف.. ألقيت بالقلم.. ألقيت بالمتاع.. هذه الأشياء وما شابهها هي ما يلقيه الإنسان.. ولكن الإنسان الضعيف الهائم على وجهه في صحراء الخوف لا يمكنه أن يقول مهما حاول: " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ".. هذا كلام لا يقوله إلا الله.. نحن نكتفي بإلقاء الأمتعة، أما الرب - سبحانه - فيلقي ما يشاء على ما يشاء.. ومما يلقيه الرعب والخوف والذعر في قلوب الذين كفروا..
إذا تحدث امرؤ القيس عن الليل قال: وليل كموج البحر..
وإذا تحدث النابغة عن الليل قال: وإنّك كالليل الذي هو مدركي..
وإذا تحدّث الجبار عن الليل قال: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً) ويقول: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) ويقول: (يكوّر الليل على النهار) ويقول: (ويسخر لكم الليل والنهار).
انظر إلى معاناة الإنسان مع الليل الذي كموج البحر.. وانظر إلى عظمة الرب - سبحانه - عندما يقول عن الليل إنه: يغشيه ويولجه ويكوّره ويسخره.. هذه معانٍ لا يعلمها امرؤ القيس ولا النابغة ولا صعصعة بن صوحان.. إنها مما لا تحوم عقول البشر حولها أصلاً.. إن فكرة الليل في عقل الإنسان تعني وقتاً وزمناً تغرب فيه الشمس فتنعدم أو تقل الرؤية فقط لا غير.. أما أن يتخيل العقل البشري أشياء أخرى حول الليل وأن الليل يُكوّر مثلاً.. فهذا ما تهلك الأجيال البشرية دون أن تتوهّمه لولا أن الرب قاله في محكم كتابه..
والقمر في التاريخ البشري ليس سوى جمال وكمال ونور، فلا يدور في ألسنة الشعراء القمر إلا ليعبر عن هذه المعاني وأشباهها، قال الأول:
ووجه يحار له الناظرون *** يخالونهم قد أهلّوا هلالا..
وقال الآخر:
بذّت نساء العالمين كما *** بذ الكواكب مطلع البدر
ويقول عنترة:
سرق البدر حسنها واستعارت *** سحر أجفانها ظباء الصريمِ..
جمجمة أمراء البيان كما سمّاهم "الخليل بن أحمد" لم تتجاوز هذه المعاني، وإن جاوزتها فإلى قريب منها.. أما الله - تعالى - فيقول: (اقتربت الساعة وانشق القمر).. هذا أسلوب جديد للحديث عن القمر لا عهد للعقل البشري به! ولم يخطر ببال العربي ولا العجمي حين يتحدث عن القمر أن يذكره ككائن انشقّ إلى جزلتين...
ومما يقال عن هتلر إنه طلب أن يؤتى بجملة تحوي قدراً من البراعة ليبتدئ بها خطبة له وكان بحضرته طبّاخ تركي فاقترح عليه هذه الآية.. فأعجب بها هتلر أيّما إعجاب.. ولمّا وقف أمام آلاف الألمان وقال بصوته المجلجل: (اقتربت الساعة وانشق القمر). يقال مكث الألمان دقائق يصفقون بإعجاب وانبهار وذهول.. إنه كلام الله العظيم..
اسمع: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر..) هذا شيء جديد.. فعل السجود ذاته عند العربي لا ينصرف للشمس والقمر والسماوات والأرض .. ستغص عقول البشر إذا حاولت أن تبتلع مثل هذه المعاني.. ولكن الله وحده هو من يعلمها ويقولها ويُعجز العالمين بقوله لها..
اقرأ الروعة في: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا).. ثم أغمض عينيك وقل: سبحان من هذا كلامه..
الجبل جرم ضخم يقف العربي أمامه هزيلاً معجبّاً بضخامته وصموده.. اقرأ لابن خفاجة وصفه للجبل لتطّلع على شيء من هيبة هذا الجرم الكبير:
وأرعن شماخ الذؤابة بــاذخ *** يطاول أعنان السماء بغارب
يسد مهب الريح من كل وجهة ** ويزحم ليلا شهبه بالمناكب
وقور على ظهر الفلاة كــأنه ** طوال الليالي مفـكر بالعواقب
إذن هذا هو الجبل في عرف الإنسان القديم وهو كذلك في عرف الإنسان الحديث.. ويضخم هذا الجبل حتى يتساءل عنه المشركين، فيأتي الجواب الذي لا يقوله إلا من أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فيقول - سبحانه -: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا)، ويقول جل من قائل: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله).. هل مثل هذا الكلام يمكن أن يمرّ بعقلك أيها الضعيف الذي تحتمي بالجبل الضخم إن هبّت الرياح الصرّ؟ لا يمكن هذا أبداً..
إذا أراد الإنسان أن يقسم فسوف يقسم ويحلف بالله، وإن كان كافراً فسيحلف بأبيه أو بأرواح الأجداد، وسيحلف بما يستعظمه مما يقع تحت علمه أو مشاهداته.. ولكن لنقف قليلاً عن هذا الكلام المعجز، ولنتخيّل أننا عرب من عرب مكة نسمع هذه الآيات أول مرة، وتطرق أسماعنا هذه المعاني لأول وهلة: (والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس).
(والضحى * والليل إذا سجى).
(والفجر * وليال عشر).
(والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور).
(والتين والزيتون * وطور سينين* وهذا البلد الأمين)؟
(والنازعات غرقا * والناشطات نشطا).
وما أدرى أبو جهل وأبو لهب والمغيرة بن شعبة بالناشطات نشطاً وبالسقف المرفوع.. وبعشرات الظواهر والمخلوقات التي أقسم الجبار بها وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ولا يقسم - سبحانه - إلا بعظيم.
وإن شئت أن تقف على شيء من فخامة وجلالة وإعجاز القرآن فاقرأ ما سطّرته أقلام أئمة التفسير والبلاغة في الحديث عن آية سورة هود العظيمة: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين).
وانظر ماذا قال عنها: عبد القاهر وابن أبي الإصبع والزمخشري والباقلاني ومحمد أبو موسى وغيرهم.. فستجد أن كل كلمة فيها معجزة وأن هذه الآية لوحدها لا يستطيع أن يأتي بمثلها بشر أو جنّ أو ملائكة ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا..
وإنك مهما قرأت وقلّبت صفحات هذا السفر المقدّس فلن تجد أثراً يحيلك على الإنسان أو على مخلوق ما.. كل ما فيه هو كلام رب العزة، الذي تتصدّع له القلوب، وتخضع من خشيته الأفئدة..
أختم بهذه الآية التي اختصرت كل ما ذكرته أو ذكره غيري فقالت: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلم به الموتى) أي لكان هذا القرآن..فسبحان من هذا كلامه.
منقول .