ما يحدث من تدافع بأرض الكنانة في هذه الأيام نتيجةُ توقفِ الثورة حيث لا ينبغي التوقف. وهل نضيف جديدا إذا قلنا إنه كان على الثائرين أن يقتلعوا الشجرة الخبيثة من الجذور؟ لقد تبين لكل منصف أن النظام الفاسد لم يسقط بسقوط الطاغية مبارك. وأن الأزلام توارَوا إلى الظل لكنهم لم ينقرضوا. وفي ظلهم استمرّوا في أداء مهام الفساد والإفساد. والحق أن سدنة النظام السابق متعدّدو المشارب والأهواء والمصالح، لكنهم مجمعون على إمضاء المهمة القذرة، بعضهم بالتستر على الفاسدين وحمايتهم، وبعض بأداء شهادة الزور، وبعض آخر بمعاكسة حركة التاريخ ومحاولة إيقاف عجلة الثورة.
ما ذُكر محلّ اتفاق المنصفين، أما ما يحتاج تبصّرا ورويّة، ثم جهرا بالحق بلا محاباة هو موضوع تزعم بعض قوى الثورة تيارَ المنازعة والمعاكسة. وأوّل شيء يلفت الانتباه هو أن مطلب إسقاط النظام قد جمع هؤلاء والإخوان وأحرارَ مصر، بيد أن ما يجمع حزب الفتنة هذا بعد سقوط الطاغية هو معاداة الإخوان. صحيح أن مواقف الإخوان لم تكن دائما موفّقة، ولاسيما موقفهم من المجلس العسكري. وصحيح أن إدارتَهم الأزمة بفهمٍ لمراعاة سنن التغيير اعترتها معاطب تُنبئ عن فهم للواقع سقيم، مثلما أن منهجهم الإصلاحي أخطأ في تنزيل قواعد الإصلاح المشهورة، وعلى رأسها درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وارتكاب أخف الضررين، وإعمال سنّة التدرج. صحيح أن اجتهادهم ذلك أفصح عن تقدير غير موفق للحَراك ولسنة التدافع. غير أن ذلك كله لا يمنع من الثناء على ما أصاب فيه الإخوان. ومن ذلك ما اتخذه الرئيس المنتخب مرسي من قرارات هي من صميم ما قامت الثورة لأجله.
ثم هل لنا أن نتساءل عن حزب المشاكسة هذا؟ من يكون وممّ يتألف؟ إن نظرة عابرة تردّ البصر خاسئا وهو حسير. أليس بينهم عمرو موسى وزير خارجية الطاغية المخلوع؟ عجبا له كيف سلّ لسانه من غمده لينتقد به رئيسا منتخبا، وكأنه كان على عهد الطاغية مسيّرَ نادٍ ليلي لم يقرب سياسة البلد قط! وذلكم البردعي الخائب يطلب من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية التنديدَ بما فعله مرسي! وقضاة غرقوا في الشكليات وضربوا بروح القوانين عرضَ الحائط، وهم أول من يعلم أن محاكمة أزلام النظام كانت مسرحية سيّئة الإخراج.
لا جدال إذاً في كون التدافعِ الحالي إيديولوجيَّ المنطلق والمقصد. لقد ساء قوما من القوميين والعلمانيين والمتغرّبين وعُبّاد الأهواء والمصالح، وبعضا من تجار السياسة وأعمدة النظام الساقط أن تؤول الأمور إلى طرف إسلامي اختاره الشعب طوعا. ساءهم أن يتولى أمرَ الدولة زعماء غيّبتهم السجون ظلما وعدوانا. كان على نادي القضاة أن يُغلِّب مصلحة الدولة وهو يرى الرئيسَ لم يقم إلا بما يخوّله له الدستور، لا أن يَظهر القضاة بمظهر المدافع عن استقلالية القضاء وسلطة العدالة وهم يعلمون أن ناديهم ما كان يحلّ أو يعقد على عهد النظام البائد، وإنما كانت صلاحياته فضلاً من المخلوع ومنّة. وهل في تمسّكِ هؤلاء بنائبٍ برّأ مُجرمي "موقعة الجمل" غير المكر وسوء النية؟
مهما كان الخلاف مع هذه الطائفة التي هي جزء أصيل من الشعب المصري، فإن أخلاق الرجال تأبى هذا الاصطفاف الذي جمع المختلفين على الحقد والكراهية. وإلا كيف لا يرى جمعُ الفلول والحاقدين إلا أن الرئيس لم يشاورهم في الإعلان الدستوري، أما كون الإعلان الدستوري ثوريّا يروم حمايةَ كسوب الثورة، ويبتغي إعمال مبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، وكون القرارات ذات طبيعة مؤقتة، فكل ذلك لا يهم جمعَ الحسّاد والفلول! لا يسع المرءَ وهو يرى هذه المواقف المخزية الطافحة بالأنانية والمكر إلا أن يستنكر بقلبه ولسانه ويده حتى يؤوب أصحابها إلى رشدهم. وليتهم يعلمون أن الثورة ماضية، وأن التاريخ لهم بالمرصاد! ألا بئس الجمعُ لم يجمعه إلا كُرْه الإخوان!