دستور يا سيدي ... دستور
الى المؤيد والمعارض : أرجوكم ... لا تضيِّعوا مصرْ
عبده بالجلابية ، الجلابية التي شربت عرقه كله حتى فاض ، ولم تستوعبه إلا الأرض التي يسقيها كل يوم ،دون استجابة منها، وكأنها تعانده ..
أعطاها ماءها وغذاءها وعرقه ، فما ازدادت إلا جحوداً
عبده بالجلابية الممزقة ، ينظر إلى بضع بصلات خرجت على استحياء ، مسح وجهه بأكمامه ، وهرع إلى بيته ، يبشر مرزوقة – دون اقتناع منه – بما حملت به الأرض .
مصمصت مرزوقة شفتيها ، وقالت : أهذا كل ما لديك يا عبده ، بصلات يتيمات ، مصفرة وكأنها جاءت ميتة ؟
عبده وهو يجلس متهالكاً على الأرض ، ينزع " الشبشب " وينظر إلى أصابع قدميه المتشققة :
أخبرتك مراراً ، هذا ليس كاري ، أنا خلقت لأكون تاجرا ، أبيع وأشتري ويشير لي الناس ، ومن يدري ربما أصبحت غنياً ، فأبتاع سراي ضخمة ، وأشتري أرض القرية كلها ، ويصبح كل من فيها عمالاً عندي ، ربما أرشح نفسي لمجلس الشعب ، ربما منحت أيضاً لقب بيه .
تنظر له مرزوقة في بلادة : لم أفهم شيئاً ، لا أعرف كيف ستصبح تاجراً وأنت مفلس ، لكن ربما تصبح بيه بعدما تم إلغاء الألقاب ، ألم تسمع عن الثورة ؟
عبده متمتماً : أي ثورة ؟ لم أسمع أن ثورة يناير ألغت الألقاب !
مرزوقة : ربما .. من يدري ؟ بماذا تفكر يا عبده بيه ؟
عبده : نبيع بقراتنا الثلاث ، ينظر في شراهة إلى يديها : وهاته الذهبات في يديك ، ستنفعنا بالتأكيد .
مرزوقة : ثم ؟
عبده : لا شيء ، لا أولاد ولا التزامات تلزمنا بالبقاء هنا ، شقة صغيرة في القاهرة ، محل صغير لبيع الأشياء المستعملة ، ثم ..
ويفرقع بإصبعه : هوب .. نصبح مليونيرات .
مرزوقة : هل تعتقد أنك عبده حقاً ؟
عبده : أي عبده تقصدين ؟
مرزوقة : عبده من مسلسل جلباب أبي ، كان يلبس جلباباً يشبه جلبابك تماماً ، لكنه أصبح غنياً ، وببيع بعض المسامير القديمة فقط .
عبده : لم أشاهد المسلسل قط ، لكنها فكرة جيدة ، وأنت تخبريني أنها مجربة وناجحة .
مرزوقة وهي تنظر إلى الأساور التي تحيط بمعصميها في حسرة : لا بأس ، ربما يكون حظك أفضل من البصل هذه المرة .
***
عبده يصل إلى فندق رخيص من الدرجة الثانية ، ملاءاته رخيصة وبالية ، ورائحته نتنة ، لكنها بأي حال أفضل من رائحة منزله ، تنقصها رائحة البقرات الثلاث ، تمتم وهو يتذكرها ، يضحك : على الأقل جئنا مجاناً .
تضحك مرزوقة : لماذا حملتنا الحافلات بدون فلوس ؟
عبده : لا أعلم .. كانوا ينادون تحرير تحرير ، ومجاناً .. يبدو أن الريس حل مشكلة المواصلات تماماً في القاهرة .. لا عزاء للمحافظات الأخرى .
اغتسل عبده ، وحده بعد أن فشل في إقناع مرزوقة أن تشاركه نفس الدش ، ثم تبعته هي ولبست جلابيتها الجديدة ، التي لم تلبسها إلا عدة مرات فقط .
في بهو الفندق الصغير جلسا ، طلبا كأس شاي فجاءهما خفيفاً ماسخاً لا يشبه الشاي الذي يعرفونه في" البلد "، شربه عبده على مضض ، رأى بعض الشباب يتناقشون وقف أمامهم ، أخذ يستمع لهم ، فلم يفهم شيئاً ، يتحدثون عن الثورات والانقلابات ، عن الشرعية وعدمها ، عن الدستور والقضاء والمليونيات ، قال أحد الشباب متحمساً أمام كاميرا فيديو تنقل حديثهم : انظروا إلى هذا الفلاح ، لقد جاء من الريف بجلابيته الأصيلة ليعبر عن غضبه وحنقه .
الكاميرا تواجه عبده ، وفجأة يجد ميكروفونا أمامه ، العيون تحدق به في انتظار أن يتحدث ، ينظر حوله مشدوهاً : نعم .. لقد بعت بقراتي الثلاث كي آتي هنا .
الشاب : أنت الوجه الأصيل للثورة ، نحيي بطولتك ووفاءك ، لا شك أنت رافض للدستور ومن حمله لنا ، صوِّت بلا ، وان غلب حمارك فقاطع .
عبده مرتبكاً : لكني لم أبع حماري ، لقد أبقيت عليه اتقاءً لعثرات الزمن .
ويبتسم : كما أنه يجلب الحظ الحسن .
يضحكون ، ويهرول عبده مدارياً حرجه وارتباكه ، تتلقفه مرزوقة :
صورتك الكاميرا يا عبده ، هه ، ظهرت في التلفزيون والفضائيات ، كلهم كانوا ينظرون لك ، حتى أنك كنت أنصح واحد فيهم .
ينظر إلى كرشه : بالفعل .. هلمي لنبع أساورك فهي تساوي هنا ما هو أكثر بكثير ..
***
يا له من نصاب كبير ..
عبده يقوم بعد نقوده الكثيرة ، ألف ، ألفان ، ثلاثة آلاف ، خمسة
لكن قيمة الذهب تساوي أكثر بالتأكيد .
مرزوقة : لا تنسى أنك اشتريتها ببضعة قروش فقط .
عبده : كان الزمن غير الزمن ، اليوم كل شيء أغلى وأفضل .
مرزوقة ترى مجموعة أخرى من الشباب ، لا تختلف كثيراً عن مجموعة الفندق ، ملابس مماثلة ، ربما بعض اللحى الصغيرة ، نفس الحماس واللهجة .
مرزوقة : ها هم أصدقاءك من الفندق .
عبده يتأملهم : لا ليسوا هم ..
يقترب منهم بفضوله المعتاد ، نفس النقاش السابق ، الحدة ، الحماس الزائد عن الحد ،
أحد الشباب يمسكه من يده :
الفلاح المصري الأصيل يرفض أن يبقى في قريته ، ترك أرضه وجاء ليقول كلمته .
عبده وهو ينتزع يده انتزاعا : بالفعل تركت أرضي وجئت لأقول كلمتي .. حتى أنني بعت أساور مرزوقة
الشباب يضج بالتكبير ، يحيونه بصوت جفل له ، حتى كاد أحد المتحمسين أن يرفعه على كتفيه ، فتراجع قليلاً للوراء .
الشاب : أنت بالتأكيد مع الدستور ، سوف تصوت بنعم
عبده وهو يمد يده إلى جلابيته : نعم
ويصرخ وهو يلتفت إلى صبي ارتطم به وواصل طريقه على دراجة مسرعة : فلوسي يا ولاد الكلب
ينظر له الشباب باستغراب ، تهرول له مرزوقة وهي تلطم خديها ، تصرخ بأعلى صوتها : حرااامي
فلا تجد أحداً يهرع لنجدتها . في أحد أفلام إسماعيل ياسين كانت صرخة واحدة تجعل الشارع كله يجري ليمسك السارق ..
عبده يرفع جلابيته حتى يظهر سرواله ، يكاد يلطم خديه وهو يتفقد جيوبه الفارغة :
- راحت الفلوس ، راحت البقرات ، ولم يبق إلا الحمار .
عاد إلى الفندق ، شاهد مجموعة أخرى ، قبل أن يتحدث أحدهم صرخ فيهم :
- يلا يا ولاد ال... الفلاح الأصيل اتسرق وحيبيع جلابيته لو تسوى ، ودستور يا سيدي دستور .
***