ديكتاتورية الأقلية
قراءة تحليلية في الأوراق المصرية
لا يخفى على متابع ما وصلت إليه الحالة المصرية في جميع مستوياتها السياسي والاقتصادية والاجتماعية والدستورية من اضطراب وتداخل بات يمثل في ظني أعظم تحد تواجهه مصر في تاريخها الممتد وبات أثر هذا التحول أمرا لا يقف على حدود القضية المصرية ولا الحدود المصرية بل إنه يمتد ليكون بمجموعه حالة فاصلة في مسيرة شعوب العالم عموما والعالم العربي خصوصا.
ولعل هذا اللغط الدائر قد شوش الصورة في عيون الكثير من أبناء الأمة وشعب مصر ، وخلط الحابل بالنابل عمدا بأيدي تشتغل لبث الفوضى وإفشال الثورة التي بات الجميع بلا استثناء آباء لها وأبناء حتى لقد بات من قامت عليه الثورة بالأمس قائدا لها اليوم يتحدث باسمها ويدعو للانتصار لها بعد أن كثرت المنابر الصاخبة التي بات الكذب أو الدجل أو التعمية وخلط السم بالعسل أهم ما يميزها فلا غضاضة إذن في مفهوم العديد وفي ظل ما يسمى بحرية التعبير أن يكيل الشتائم أو يدعي البطولات أو يتطاول على هيبة الرئيس أو حتى هيبة الدولة ، ولا مشاحة عندهم في أن يتخذوا من حرية التعبير وسيلة قذرة لتصفية الحسابات أو ادعاء البطولات أو تلميع أو تمييع الشخصيات أو حتى تعطيل الحياة.
ولا يخفى على منصف نزيه أن ما يحدث في مصر ليس إلا متاجرة بمستقبلها وبصالح شعبها ومقدرات أمتها من أجل مطامع حزبية أو مناصب سياسية أو تصفية حسابات أو محاربة أيدولوجيات. ولقد اعتلى منبر الإعلام عدد غير قليل في إطار حملة التناقضات والمتناقضات فاختلط فيها الغث بالسمين وبات التحشيد السياسي يغلب على كل المشاهد في حالة أقرب للانفجار الذي لا تحمد عقباه. ولعلني برصد عام للتيارات والتوجهات التي تتصارع بقوة فيما بينها ولكن تتحد بقوة أيضا في سبيل هدف عام يبدو أن الاتفاق عليه قديم وأن هناك أيدي خفية تحرك المسار، قد وصلت لهذه التصنيفات الأساسية في تفسير الموجة المحركة لهذه الفوضى على النحو التالي:
أولا ، هناك مجموعة المنتفعين السياسيين وهم مجموعة من فشل في كسب الأصوات الانتخابية في المرة السابقة ممن يرونها فرصة مواتية لكسب سباق جديد يسعون ليكون إحدى نتائج إقرار الدستور الجديد بوضع بند يقيل مرسي باعتباره مجرد رئيس انتقالي لا رئيس شعبي منتخب لدورة كاملة. ولعل على رأس هؤلاء حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وأيمن نور وهم من كانوا منافسين على كرسي الرئاسة وقليل غيرهم ولكل منهم أتابع لهم مطامع وزارية وما شابه.
ثانيا ، هناك مجموعة الموجهين المدسوسين من رجالات الغرب عموما وأمريكا والعدو الصهيوني خصوصا ممن يسعون لتقويض النظام الحالي بشكل تام ووضع مصر في فراغ دستوري وسياسي وقانوني يسمح للجيش بالعودة لسيطرة مؤقتة لحين طبخ نظام قديم بوجه جديد يكون مواليا للغرب ومحافظا على مصالحه وعلى حماية أمن الكيان الصهيوني في المنطقة كما كان دوما. ولعل هؤلاء ومهما لبسوا ثوب الوطنية والدعوة للحرية مكشوفي الوجه على رأسهم البرادعي وعمرو موسى وجماعة موالية لهم تسعى بكل قوة للطعن في أي شيء وكل شيء بل ويتحدثون بلسان من يملك السلطة والقوة ويقدمون في المعارضة على أساس أنهم أصحاب الصوت الأعلى باعتبار دعمهم الخارجي.
ثالثا ، هناك مجموعة ما يطلق عليهم الفلول ولا زال أكثرهم في مصر ولا زالت أموال الشعب التي نهبوها في أيديهم ومراكز قوة تحت تصرفهم ، ولا أحسبهم توقفوا للحظة عن الكيد وانتهاز الفرصة للعودة بقوة بما لديهم من أموال وأسلحة وبما عندهم من بلطجية ومنتفعين وهذا ما حدث بعد أن مدت المعارضة يدها وأفسحت لهم مكانا في وسط ميدان التحرير الذي ثار عليهم بالأمس ليأتوا اليوم يقودون مع فلول المعارضة ما يسمى بالثورة المضادة وليعودوا بمصر إلى ما قبل عهد ثورة يناير باعتبارهم الثوار الجدد على ما يسمونه الديكتاتورية الجديدة.
رابعا ، هناك مصالح حقيقة للعديد من الدول العربية خصوصا تلك التي لما يصلها المد الثوري الشعبي في إفشال صورة مصر باعتبار دور مصر الريادي والملهم وأهميتها في المعادلات السياسية العربية والدولية ، وهؤلاء يحتضنون الهاربين من الفلول ويدعمون المعارضة بكل الوسائل المتاحة أقلها الدعم الإعلامي المنحاز ، باعتبار أن نجاح ثورة مصر تعني بالضرورة امتداد الثورات الشعبية إلى تلك البلدان ، وأن فشلها تعني بالضرورة أيضا تراجعا مطلقا عنها باعتبار المثل المخيف في إراقة الدماء لمزيد من الفوضى بما يحقق ما قاله البائد مبارك: إما أنا أو الفوضى.
خامسا ، هناك مصالح إقليمية ودولية يهمها أن لا تعود مصر قوية وقائدة للمنطقة فتزاحم ما حققوه من إنجازات خلال الحقبة الفاسدة لمبارك حين حول مصر إلى أقل من فأر يلهو به القط الأمريكي. وهناك من بينها من تجد في انتصار التوجه المنهجي والعقائدي ما يهدد مصالحها في المنطقة.
سادسا ، هناك صراع طبقي يصر البعض على أن لا يلغى بما يحمل المشروع الإسلامي من عدالة اجتماعية ، وبما يكفل الدستور الجديد من عدالة وكفالة للحريات ومحاربة للتميز الطبقي لقبا ومضمونا وملكيات وصلاحيات. إن مجموعة ممن تصنف نفسها نخبا في المجتمع تحرص على أن لا تفقد هذه الحالة الاجتماعية التي كسبتها عبر قرون بعيدا عن التحقيق في ماهية و طبيعة هذا الكسب ، ولهذا نجدهم مهما كان انتماؤهم ملتزما أو متحررا إسلاميا أو ليبراليا يحاربون الواقع الحالي أو يعارضونه.
سابعا ، وربما هذا هو الأهم والأعم هناك قطاع عريض من الشعب المصري ممن لا يزال أسير الآلة الإعلامية التي دجنته طوال عقود ووجهته إلى حيث تريد ومن بين ذلك الموقف من الجماعات الإسلامية وخصوصا الإخوان المسلمين باعتبارهم كما يروج عنهم الليبراليون يعتمدون منهج "الاحتيال أو الاغتيال". ولم يتوان هؤلاء في أن يعيدوا تشديد هذه الحملة الإعلامية المغرضة من فوزهم في الانتخابات بالكثير من الشحن الكاذب والتضليل الإعلامي الأعمى بل والشعارات التي يسمعها الجميع باعتبار رفض المجتمع لحكم الإخوان تارة ورفضهم لحكم مرسي المحسوب عليهم تارة أخرى. هذه المجموعة هي التي تمثل القوة التي تعطي المعارضة السياسية زخمها في ظل إعلام موال للتيار الليبرالي ومتمرسين في التضليل وخلط الحقائق من على صهوات المنابر أمام شعب اعتاد عموما أن يقبل من يفكر عنه دون مراجعة ومن يصدر الأحكام نيابة عنه ومن يقرر له ما هو الصواب وما هو الخطأ دون محاسبة.
ونتيجة لكل ما سبق نجد أن مصر تعاني اليوم من هذه الثورة المضادة بقوى لا يمكن الاستهانة بها مطلقا ولا أقصد هنا الجماهير المضللة أو تلك المغرضة أو تلك التي تسير مع التيار ذي الصوت الأعلى بل القوى العالمية والإقليمية والعربية ، وقوة الإعلام الموالي القادر على بث وترويج ما شاء في سبيل تحقيق الهدف المطلوب عندهم وكذلك الأموال التي يمكن شراء ذمم الفقراء أو العاطلين بها كما كان يحدث في مصر غالبا.
وهنا لا يجدر بنا أن نغفل حقيقة مهمة وهي أن شعب مصر لا يزال يعيش تأثيرات النظام السابق فالتخلص من النظام لا يعني بالضرورة التخلص من آلية التعامل والتفكير التي حكمت المجتمع المصري لعقود طويلة ورسمت ملامح شخصيته العامة ولما تتح له الفرصة للتخلص من أثر تلك الحقبة. ولعل هذا الأمر هو أحد ما تراهن عليه القوى المعارضة على اختلاف مصالحها وأغراضها. وعليه فلا زال ممكنا شراء الذمم بقليل من المال وإغواء عقول البسطاء ممن يقدس الآلة الإعلامية وإغراء أصحاب المطامع كل وفق هواه وتخويف الناس من الجوع والفقر والدم وهم من كان سببا فيه ولا يزال.
ورب متسائل في خضم هذا اللغط عن صحة ما يحدث من خطأ وعن المسؤولية عن كل ما يحدث فأقول: لقد كشفت الأقوال والمواقف حقيقة كل مندس طامع ممن يدعي الحالة الثورية والحرص على الديمقراطية ممن استخدموا أسلوب دس السم في العسل أو بالأحرى منهج "كلمة حق أريد بها باطل". نعم الرئيس محمد مرسي رجل طيب وصادق ومخلص يريد الخير للوطن ويريد أن يرتقي بمصر وشعبها وأن يعيد دورها وقدرها ، ولكني رغم عظيم ثقتي وثقة الملايين به لا أراه رجل المرحلة لأن هذه المرحلة هي مرحلة انتقالية مهمة وفيها كل ما ذكرنا من ترصد وتربص وأزعم أنها مرحلة تحتاج شخصية ذات قوة في التأثير وفي اتخاذ القرارات الصارمة تجاه كل تجاوز أو إثارة للفتن بزعم حرية التعبير ، وهو ليس رجلا معصوما وله أخطاؤه التي استغلها المتربصون بقوة وبالغوا في الإساءة إليه من خلالها ، بل ومن خلال أخطاء هنا وهناك من قادة العمل الإسلامي عموما وجماعة الإخوان خصوصا ، وقد فهم حلم مرسي ومحاولته الاحتواء ضعفا أوغر عليه المناوئين بل وأرخص هيبته أمام جموع من الجماهير. ويجدر هنا أن أؤكد أن أخطاء مرسي لم تكن كارثية ولا حتى جوهرية بل عرضية لا تمثل أمرا كبيرا في مرحلة انتقالية بممارسة ديمقراطية لم تعتادها مصر منذ آلاف السنين تتسم بالتجربة والخطأ والتسديد والمقاربة.
أما الموقف القانوني والدستوري فالرئيس مرسي هو رئيس منتخب وفق إرادة شعبية وهو منذ إقالة مجلس الشعب صاحب الصلاحية التشريعية والتنفيذية ليس بقراره بل بقرار وافق عليه كل هؤلاء في عهد الحكم العسكري ، وهو الشخصية الشرعية الوحيدة في مصر ، وقراره بالإعلان الدستوري صحيح قانونيا ودستوريا وإن كنت أراه لم يتصرف بشكل جيد في آلية اتخاذ القرار ولا في آلية عرضه ، وكنت شخصيا أرى أن في يد الرئيس من الوسائل ما كان يغنيه عن اتخاذ هذا القرار بإجراءات أقوى رغم تربص المحكمة الدستورية وحركة القضاة الذين يجب علينا أن لا ننسى أنهم من أعوان النظام السابق وأنهم يدينون بالولاء له وتوجههم جميعهم يخالف تماما توجه الرئيس مرسي وحزب الأغلبية في الانتخابات. وليس من الحكمة أن ننكر ما تم الإفصاح عنه علنا وفي القاعات المغلقة من الدور الذي يمارسه القضاء في إشعال فتيل الثورة المضادة بإحداث فراغ دستوري وسياسي يؤدي لترتيبات تعيد إنتاج النظام القديم بوجه جديد.
إن موقف القضاء لا يمكن أن يمثل بحال دلالة على صحة ما يزعمون باعتبارهم خصما تجسد في إعلان الرئيس مرسي بإعادة المحاكمات والحساب للجميع ومحاربة الفساد وهذا هدد أكثرهم باعتبار أنهم أصحاب الدور الأكبر في فساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر على مدى عقود ، وهؤلاء هم من تم تعيينهم من قبل النظام الفاسد السابق ، وعليه فهم خصوم لا حكام خصوصا بعد أن بادروا هم للدخول في اللعبة السياسية بما أسقط حصانتهم القضائية.
ونعم ، هناك لغط كبير وعجيب في تفسير وتأويلات متضاربة ومتناقضة للجانب القضائي والدستوري ، ولكن ليس أعجب من أمر ما أراه أساس الموضوع مما سها عنه الجل الجليل ألا وهو: كيف يكون الاحتكام إلى دستور نظام تم الانقلاب عليه ورفضه من خلال ثورة شعبية عارمة بسبب فساده وتسلطه؟؟ بكلمات أخرى .. كيف يصح أن نصحح مسار فاسد بالاحتكام إلى قوانينه التي أسست لهذا الفساد؟؟
إن ما حدث هي ثورة شعبية على نظام سابق وليس على رئيس سابق ولا حتى على حكومة سابقة ، والنظام السابق بمجموعه قام على أساس هذا الدستور وهذه القوانين وهذا القضاء والرقابة الفاسدة التي عرف الشعب منها ما عرف وسيعرف عنها أضعاف ما عرف. وإن أبسط المفاهيم عند حدوث الثورة ضد نظام هو التخلص من كل هذا النظام دستوريا وقضائيا وإعلاميا ومنهجيا ، ولذا فمن العبث أن يتم الاحتكام إلى بنود دستور لنظام قامت الثورة عليه وقصدت التحرر منه ، وبهذا المنطق الثوري يصبح كل طرح يتناول الوضع القانوني عبثا ومفسدة وخدمة لعودة نفس النظام بوجوه جديدة.
ولعل الحديث عن الدستور حديث ذو شجون باعتبار أنه أحد أفضل وأكمل الدساتير المطروحة في العالم ليس وفق رأيي المتواضع فحسب بل ووفق رأي أفضل المختصين الشرفاء داخل مصر وخارجها ، وهذا التحشيد للطعن في الدستور ورفضه يدلل بشكل قوي على عدم جدية المدعين بالحرص على الديمقراطية ممن يشوهون بنود مميزة ويشوشون على بنود أخرى ، ناهيك أن المواد التي كان هناك اختلاف عليها لا تمثل أكثر من 10% من مواد الدستور بشهادتهم هم ، وجلها في مواد تتعلق بالأمور السياسية الحزبية ، ولقد سمعت أكثر من تصريح لأكثر من شخص مشارك في الجمعية التأسيسية يؤكدون أن الخلاف كان على بنود لا تمثل صالحا عاما بل مصالح شخصية لعل أهمها وأوضحها حرص قادة المعارضة الحالية على تأكيد إجراء انتخابات رئاسية بمجرد الانتهاء من اعتماد الدستور ، ولو كان تم جدلا التوافق على هذا لما كان ما كان من شيطنة الدستور وشيطنة الرئيس لأن ذلك سيحقق الهدف الأكبر الذي يسعى إليه أكثر أطراف المعارضة وهو إسقاط الحكم ذي التوجه الإسلامي بالدرجة الأولى ثم إسقاط الرئيس مرسي باعتباره ضمن هذا التوجه بالدرجة الثانية.
إن ما يحدث في مصر في حقيقته ليس بحثا عن الديموقراطية ولا غيرة على الحريات ولا خشية على مستقبل مصر ، وإنما هو في أساسه محاربة ومحاولة تقويض نظام حكم ذي توجه إسلامي ، ومطامع واضحة من بعض شخصيات تريد تعويض فشلها ، ومحاولة عمل ثورة مضادة من أطراف داخلية وخارجية ، ولو أنزل عليهم الدستور كتابا من السماء فلمسوه بأيديهم لما قبلوه ، ولو وافقهم الرئيس مرسي على مطالبهم لما رضوا عنه ولما تركوه ، ولن يكون منهم إلا هذه المتاجرة بالدم المصري وبمستقبل مصر والأمة وممارسة "ديكتاتورية الأقلية" التي ترفض كل شيء وتخون كل شيء وتنتقد كل شيء بعين سخط لا ترضى ، وبتربص لا يتوقف ، وبترصد متهافت لا يرعوي ، وبسوء ظن لا ينتهي ، ولو أنهم صدقوا شيئا مما يقولون لاحتكموا إلى قرار الشعب من خلال التصويت على الدستور وإنهاء حالة الفوضى المتعمدة هذه والبدء في ممارسة حياة دستورية تكفل وفق الدستور الجديد الحريات وتضمن الحقوق وتحصن الشعب من سياسة الحكم المطلق مدى العمر ، ومن صبر على حالة مصر لقرون وعقود من القهر والتسلط لن يعجز عن الصبر على حكم أفضل بمراحل من سابقه لأربع سنوات أخرى لو كانوا يصدقون.