الأم تجري هنا وهناك ... وتردد: أين هو؟ .... ألم يكن معك؟ ... ألم أعطك معطفه كي تلبسه أياه؟ ... تنادي بأعلى صوتها .... يكاد قلبها يقفز من صدرها ... الأب شاخص البصر .... أسماه عليًا على اسم أخيه الذي مات في سجون الظلم والاستبداد ... لكن ذهب عليّ وعليّ ... كل من حولهما ألجمت رائحة الموت صوته وأفكاره ... تعود الأم للصياح: عليّ ... عليّ... عليّ ... من سيأكل طبق الحلويات الذي صنعته لك؟ ... من سيصرخ كل صباح مناديًا إيايّ بكل تمرد اسكبي لي حليبي؟ ... من سيدق الباب منتصف النهار بكلتا رجليه معلنًا قدومه؟ ... من ... ومن ... ومن ... أواه يا فؤادي كيف ستحتمل ... ويمر شريط من الذكرى في رأس الأب عندما خرج ثائرًا ضد الظلم ... كان بجانبي ... أحيانًا يسأل: لماذا قمتم بالثورة؟ .... كي تعيشوا أحرارًا .... لكنه رحل تاركًا الحرية في قمقمها ... كيف كان يلوّح بالعَلَم في ساحة الحرية ... يصر كل يوم على الخروج معه ... كان لا يخاف صوت الرصاص ... صار هناك عشق بينه وبينه حتى بات يعرفه من صوته ... لكن كم عشيق قتل عشيقه ... كان الصباح مشرقًا كعادته ... خرج مرتديًا ثيابه الجديدة مصرًا على ارتدائها وكأنه يعلم أنه سيكون عريس هذا اليوم ... صار يعاكس أمه ذاك الصباح حتى ضجرت منه معلنة أنها لن تصنع له طبق الحلويات ... لكنها صنعته ... خرج ووالده يلبسه معطفه وهو يصر على أنه لا يشعر بالبرد ... عاد كما يعود كل يوم ... لكن هذه المرة ليست مثل كل يوم ... كان هناك شجار أول الشارع ... وقف ينظر كما ينظر الباقون ... لكنه ليس مثل الباقين ... إنه عليّ ... خرجت الرصاصة تمرق الصفوف ... لم يصدها إلا صدره الصغير ... وقع وعيناه تصعدان للسماء وهو يبتسم ... فصار له من اسمه نصيب ... رحل عليّ ورحلت معه كل أحلام أبيه ... انتظرت أمه كثيرًا لكن لم يعد عليّ ...