.
مساء ثقيل يحبو في مدار الزمن بلا عجل،وأنا جالسة قرب نفسي،ألتحف كلّي و بعضا منك،أرتشف قهوة بطعم الفقد،و ظل النور يركض بعيدا عنّي،و ذاكرة تجلس قبالتي تغمز لي؛تتمتم بشفتيها المتشققتين كلمات مبهمة، فهمت منها قولها : أنّ في قبوها متسع لبقايا فرح و صناديق حزن لم تكشف عنها بعدُ،
صاخبة تلك الذاكرة،و أصابعُ اللّهفة تنقر على قلبي المسجّى بالشّغف،و شفَتاي يشربهما العطش لم تكملا فنجان الحنين المـرّ،و أنت المستلقي على بساط مزخرف بياسمين أشواقي؛حيث لا يقربك التعب،تاركا لي جعبة من التساؤلات التّي شاب عقلي بحثا عن أجوبتها،كأنما وضعتني أمام معادلة حسابية و أنت تعلم أني و الرياضيات لا نلتقي كثيرا،أغوص في أعماقي؛حيث تقطن أنتَ داخلي،أبحثُ عن تفسير لغرابتك و غموضك،و كلما أبحرتُ فيك أكثر ألفيتُ ألف ثغرة بين ما قلتله لي،و بين ما وجدته فيك،
كم هي عميقة ذاكرتي !!
و كم هي ولودة،يكفيها لمسة واحدة أو نظرة واحدة لصورة مررتُ أمامها أو كلمة سقطتْ في أذني؛لتُنجب لي فرحا يرسم ابتسامة على شفتي؛سرعان ما تجهضها غصة حزن تتجدد خلاياه،و تلتئم تشققاته؛كأنما أفرغ عليه من عين القطر،
هي الفرحة الموءودة بملح الآهة المتسرّب داخل فجوة في خاصرة قصتنا،و هذه الذاكرة تفتح أبواب الماضي، تبسط بين يديّ تلك الأيام الخوالي،كأنها لم تنته يوما،فتَكشفُ لي زيف حديث الصباح ،المعتّق بأفيون الغرام ،
و تفضح الخديعة المتوارية خلف ابتسامة منك، و وعد أخلفتَه،و أنساني فرط شوقي إليك أن أعاتبك عليه كلّما عدتَ من بعد غياب.
كنت أمنّي نفسي أن تصاب ذاكرتي بالعقم؛لأرتاح من وليدها الذي يركض في روحي قبل أن يحبو،لأن أرحام الفرح فيها عقيمة،كما أنها لا تتواجد حينما أريدها،إذ تضيع مني و تتوارى خلف النسيان،
لكنّي صرتُ الآن أستأنس بحديثها،و أتذمّر من هدوئها المزعج،فلولا إصغائي لعزف نايها المكسور، لم أكن لأصحو من غفوة العشق التّي كبّلت عقلي،و كتمت أنفاس التعقل و التساؤل،و التمييز بين نبرة الصدق من الكذب في أحاديثك.فكانت وشاية الذاكرة حقيقة دمغَتْ كلماتك بحَجر الصدق؛فأسقطتها أمامي؛كاشفة لي لؤمك و زورك،لِتدحض ادعاءاتك الباطلة بأنّك لا ترى في الكون سواي.