قال في ( الخطبة 153 ) عن الخفاش :
و من لطائف صنعته و عجائب خلقته ، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش ، الّتي يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شيء ، و يبسطها الظّلام القابض لكلّ حيّ ، و كيف عشيت أعينها عن أن تستمدّ من الشّمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها ، و تتّصل بعلانيّة برهان الشّمس إلى معارفها...
الإمام علي بن أبي طالب
نهج البلاغة
يعجبه ظله بضمور بطنه،و إمساكه عن كل شهوة لا ينالها بعرق جبينه. في موقف الحافلات يتجنب ظله مسابقة النساء، و يتحاشى الاحتكاك بأجسادهن، بل يفسح لهن المجال بكل ما يليق بالسيدات من احترام .
ما أسعده! يشبهه ظله في وسامته، و قامته المنتصبة. يضارعه في كل سجاياه العظيمة. يسحره بنقاء روحه،و صفاء سريرته.
في العمل،يتعفف الظل عن ملاحقة مفاتن زميلات صاحبه. يعتبر ذلك إخلالا بالقيم المهنية النبيلة، و إذا عانقت عيناه عيني إحداهن تتورد وجنتاه خجلا. يتذكر أن العين من الأعضاء الثمانية المكلفة. لا يجوز تسخيرها إلا في المعروف، فيغض بصره.
يدخل المسجد،فيرى ظله مقبلا على ربه ." يكبِّر بالتلبية ...يقرأ بالترتيل... يركع بالتعظيم...يسجد بالتواضع...يسلم بالتودع ".(1)
كم كانت فرحة الظل عظيمة حين علم بترقية صاحبه سيشعر بالفخر أمام أقرانه الظلال.
حمي وطيس الحفلة التي نظمتها الشركة احتفالا بترقيته إلى منصب مسؤول السياسة المالية على عموم فروعها بالداخل و الخارج. غمرته الفرحة. شارك المحتفلين في الرقص، و الغناء....و أشياء أخرى!؟
انزوى الظل في ركن قصي من قاعة الاحتفال. يراقب صاحبه، و الحزن يعصر فؤاده. لم يصدق ما رأت عيناه.كأن روحا شيطانية كانت راقدة في أعماقه، فاستيقظت دفعة واحدة،و أحيت فيه هذا الإقبال الجنوني على الملذات.
دخلت عليه رئيسة قسم التسويق في مكتبه الفاخر. تسبقها فغْمة طيب باريسي كان قد اشتراه لها هدية بمناسبة تنصيبه. قميصها الرهو، و جبتها القصيرة تشيان بكل مفاتن جسدها الذي يفيض أنوثة.
اشمأز الظل من تبرجها.ارتعب من تنين الشهوة المنتصب في عيني صاحبه. يقف عند باب شقتها. يحاول أن يثني المدير الجديد عن الدخول في علاقة قد تتحول إلى متاهة لن يعود منها أبدا. لكن الشهوة خلبت لبه... أعمت بصيرته. يؤنب ظله. يصيح في وجهه:
- أنت عبدي آمرك فتأتمر،و إن شئت أنت مجرد قرد خاسئ يقلد حركاتي سكناتي. لن أسمح لك بعد اليوم بالتمرد عن إرادتي.
يجرؤ الظل على تقديم النصح، و لكن لحكمة ما لا يستطيع فراقه، فينصاع، و يلوذ بالصمت.
يخرج من بيتها مخمورا، مسربلا بالخيانة. يبكي الظل. يتحسر على رفيق دربه:
- ستفنى في درب شهوتك...ما أعظمك حين كنت في مسجدك!
- الشهوات تطيل العمر،و المساجد لا تفعل أكثر من تأجيل النعيم،و السعادة إلى ما بعد الموت.أنت مجرد بقية فضيلة انقرضت من زمان.سألحقك بما سبقك منها إلى دار الفناء .سيكون الظلام رصاصة الرحمة التي أطلقها عليك...سأعيش فيه ما استطعت، كي لا أراك ،وأتخلص من سماع تعاليمك البائدة.
نزل عليه كلام صاحبه كالصاعقة. تساءل إن بقيت فسحة أمل لإخراجه من مستنقع الشهوة الآسنة. استنجد بالكاتب شخصيا. ترجاه ألا ينساق وراء سحر السرد،و يساير لذة الحكي، فيضيع مع صاحبه.ترجاه أن ينير طريقه. و يغير مصيره. خاب رجاؤه، حين أخبره الكاتب أنه ( لا يمكن إيقاف السهم، أو تعديل مساره عندما يغادر القوس. سيسير نحو هدفه بخطى واثقة). رفع الظل رأسه إلى السماء و همس:
- المنفى أرحم بظل يرفض أن يعيش على غير إرادته.
بات المدير لا يستجيب إلا لصوت الشهوة الشيطانية الداعي إلى إشباع الرغبات.هجر عمله...صار خفاشا لا يتقن العيش إلا في الظلام. في المرات القليلة التي ينسى و يخرج فيها إلى النور. يناديه ظله:
- عد إلي.عد إلى سيرتك الأولى.نبتهج أنا و أنت. أنسيت ....
يغلق أذنيه بإحكام...يستغشي ثيابه،ثم يجري نحو الظلام.