الفتاوى الشاذة
في عالم مفتوح كثرت فيه الفضائيات ووسائل الاتصال والتواصل ، ودخول مجال الفتوى من يحسن ومن لا يحسن ، ومن لا يتورعون من شيء ، فيجيبون عن أغمض المسائل وأعوصها ، مما لو عرض على عمر لجمع لها أهل بدر .
ولذا كثرت الفتاوى الشاذة ، والاجتهادات البعيدة عن روح الإسلام ومقاصدها ، غير المبنية على أساس شرعي أو دليل معتبر .
وبما أن عملية الإفتاء والاستفتاء مستمرة غير متوقفة ، فكيف نستطيع معرفة هذه الفتاوى الشاذة حتى نتجنبها ، وكيف نميز بينها وبين الفتاوى التي قد تبدو شاذة وهي ليست كذلك ..
في كتابه ( الفتاوى الشاذة .. معاييرها وتطبيقاتها وأسبابها وكيف نعالجها ونتوقاها ) تطرق الدكتور يوسف القرضاوي وأجاب عن هذه الأسئلة وبيانها ..
وقد عمدت إلى الكتاب فاختصرت المعايير العشرة التي يمكن من خلالها غربلة مثل هذه الفتاوى ، أرجو أن أكون قد وفقت فيه ..
الفتاوى الشاذة : هي التي شذّت ـ خالفت ـ عن المنهج الصحيح ، ولهذا فهي محكوم عليها بالخطأ في نظر من يعتبرها شاذة .
وهي في تراثنا الفقهي قليلة بل نادرة ، وفي عصرنا كثيرة بل منتشرة .
المعايير العشرة للفتاوى الشاذة وتطبيقاتها
1 ـ أن تصدر الفتوى من غير أهلها :
فالمفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام وتعليمها للناس كما قال الشاطبي، وهو موقع عن رب العالمين كما قال ابن القيم .
فآفة كل علم أو فن أو صناعة ، أن يدخل فيها غير أهلها المتقنين لها ، العارفين بأصولها ، فمن مارس الطب وهو غير مؤهل له قتل الناس وافسد الأبدان بجهله ، ومن مارس فن الهندسة وهو غير مهندس لم يبعد أن يبني عمارات تنهار فوق رؤوس سكانها .
قال ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) : ( وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين ؟
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول قال لي بعض هؤلاء أجعلت محتسبا على الفتوى فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب ) .
وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبدالرحمن ـ شيخ مالك ـ يبكي فقال له : ما يبكيك ؟ قال استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم ! قال : ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق !
ويرى ابو حنيفة وجوب الحجر على ثلاثة : الطبيب الجاهل والمفتي الماجن ( المتلاعب ) والمكاري ( المقاول ) المفلس ، دفعاً لضررهم عن الجماعة . وهو الذي لا يرى حجراً على السفيه احتراماً لآدميته !
2 ـ صدور الفتوى في غير محلها :
أي أن يكون موضوع الفتوى من المسائل المقطوع بحكمها في الشريعة ، المعلومة للعلماء ، الثابتة بأدلة قطعية في ثبوتها ودلالتها ، ثم يأتي من يجتهد فيها من جديد ، ليستخرج حكماً يخالف ما استقر عليه والفقه ، واستمر عليه العمل ، وثبت بالإجماع اليقيني .
يقول ابن قيم الجوزية في ( إغاثة اللهفان ) : ( الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود ، المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه ، والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ... ) .
كمن يريد تسوية البنت والابن في الميراث بدعوى المصلحة ، والله تعالى يقول ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) .
3 ـ معارضة الفتوى لنص قرآني :
فالقرآن يحرم وهي تحلل ، أو يحلل وهي تحرم ، أو يوجب وهي تسقط .
كمن يريد إباحة لحم الخنزير بحجة أن القرآن إنما حرم خنازير سيئة التغذية بخلاف خنازير عصرنا ، وقد حرم الله تحريماً قاطعاً الخنزير ( أو لحم خنزير فإنه رجس ) .
وكمن يريد إباحة الخمر ، وخصوصاً في البلاد الباردة ، وهذا مخالف للقرآن الكريم ( فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) .
4 ـ معارضة الفتوى لنص نبوي :
والمعارضة هنا للأحاديث الصحيحة ، وقد يحدث هذا كثيراً ، لما حصل من انفصال بين علم الفقه وعلم الحديث ، فكثير ممن ويشتغلون بالفقه لا يعرفون الحديث معرفة جيدة ، بل تروج عندهم الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة أحياناً .
ومن الأمثلة عليها :
فتوى إباحة التماثيل ، في حين أن الأحاديث تؤكد على حرمتها ، ففي حديث ابن عمر مرفوعاً : ( إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم ) ، وحديث ابن عباس : ( من صور صورة فإن الله معذبه ، حتى ينفخ فيه الروح ، وليس بنافخ فيها أبداً ) . رواه البخاري .
قال ابن دقيق العيد ( 702 هـ ) في كتابه ( إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ) شارحاً حديث عائشة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله).
( فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور ولقد أبعد غاية البعد من قال : إن ذلك محمول على الكراهة وإن هذا التشديد كان في ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان وهذا الزمان ـ حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده ـ لا يساويه في هذا المعنى فلا يساويه في هذا التشديد ـ هذا أو معناه ـ وهذا القول عندنا باطل قطعا لأنه قد ورد في الأحاديث : الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين وأنهم يقال لهم : " أحيوا ما خلقتم " وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام : " المشبهون بخلق الله " وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تخص زمانا دون زمان وليس لنا أن نصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خيالي يمكن أن يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبه بخلق الله ) .
وكذلك القول بأن التبرج الجاهلي الذي تمارسه بعض النساء من كشف الرأس والذراعين والنحر والساقين وما تقوم به من الوصل والنمص والوشم ، القول بأن كل ذلك من الصغائر يكفرها الوضوء والصلاة وغيرها من الفرائض بل يكفرها مجرد اجتناب الكبائر ، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وان ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا ) . رواه مسلم .
5 ـ مخالفة الفتوى للإجماع المتيقن :
وهي أن تكون الفتوى مخالفة لما اجتمعت عليه الأمة إجماعاً متيقناً ، لأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، فهذه الأمة معصومة بمجموعها .
فإذا أجمعت على حلال فهو حلال وإذا أجمعت على حرام فهو حرام وإذا أجمعت على واجب فهو واجب ، والذي يخالف هذا الإجماع تعتبر فتواه شاذة .
كفتوى الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني في تحريم الذهب المحلّق ، وقد ذكر البيهقي ( في السنن الكبرى ) إجماع الحلّ على النساء ، قال : ( قد استدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة ) .
6 ـ مخالفة القياس الجلي أو القياس غير الصحيح :
أي تعتمد الفتوى على قياس غير صحيح ، كأن تقيس على غير أصل ( أي لا يكون على أصل من كتاب الله أو حديث صحيح ) ، أو يكون هناك فارق معتبر بين المقيس والمقيس عليه ، أو تكون العلة غير مسلّمة أو غير صحيحة .
كمن أجاز الربا بين الحكومة والشعب قياساً على حديث ( لا ربا بين الوالد وولده ) ، وهو في الحقيقة قياس على غير أصل ، لأن هذا الحديث ليس بحديث ، بل حكم فقهي لدى بعض المذاهب .
وكما أفتى بإرضاع المرأة زميل العمل لإباحة الخلوة ، استناداً على حديث إجازة الرسول صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل بن عمرو إرضاع سالم مولى أبي حذيفة الذي عاش في كنف هذه الأسرة إبناً لأبي حذيفة وامرأته .
فهذه الإجازة كانت خاصة بتلك الحالة الاستثنائية ، فلا يجوز القياس عليها .
7 ـ مخالفة الفتوى مقاصد الشريعة :
تمسكاً بحرفية النص وإهداراً لما قصد إليه .
كمن أفتى عدم اعتبار النقود الورقية التي يتعامل بها العالم كله نقوداً شرعية ، تجب فيها الزكاة ويجرب فيها الربا !
لأن النقود الشرعية عندهم هي الذهب والفضة التي نصت عليها الأحاديث .
ومع ذلك فهذه النقود عندهم يدفعونها أجرة العمل ، وثمناً إذا اشتروا ، ومهراً للمرأة ، ودية في القتل الخطأ ... الخ ..
فكيف ساغ لهؤلاء أن يغفلوا ذلك كله ، ويسقطوا الزكاة عن هذه النقود ، ويجيزوا الربا فيه ، لأنها ليست ذهباً ولا فضة ، لولا النزعة الظاهرية الحرفية التي تغفل مقاصد الشرع ، والتي ذهبت بهم بعيداً عن الصواب !
8 ـ تصوير الفتوى للواقع المسئول عنه على غير حقيقته :
أي الخطأ في تصوير الواقع الذي يسأل عنه السائل تصويراً مغلوطاً ، لا يصور الواقع كما هو ، بل يتصوره أو يصوره على غير حقيقته ، وإذا تصور المفتي الواقع على غير ما هو عليه كانت فتواه في موضوع آخر .
وقد نبه الإمام ابن القيم إلى وجوب تمكين الفقيه من فهم الواقع على ما هو عليه ، يقول في ( إعلام الموقعين ) :
( ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل سليمان صلى الله عليه بقوله ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عين الأم وكما توصل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لنجردنك إلى استخراج الكتاب منها وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله حتى دلهم على كنز جبي لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله المال كثير والعهد أقرب من ذلك وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم وأخبر أن هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبة إلى الشريعة التي بعث الله بها ورسوله ) .
وكمن أفتى بإباحة فوائد البنوك ، بسبب خطأ في تصوير الواقع ، إذ جعلوا هذا العقد وكالة أو عقد مضاربة ، وكل ذلك ليس بصحيح ، والواقع الصحيح لهذه المسألة أن العلاقة بين البنك وعملاؤه علاقة إقراض واقتراض ، فالبنك مقترض أموالهم ، وهم مقرضون ، المسمى ربحاً أو عائداً هو نصيب أرباب العمل ، وهو الفائدة الربوية المضمونة والمنسوبة لرأس المال والمدة ، وهذا عين الربا .
وكالفتوى التي شارك فيها القرضاوي نفسه واعتبره شذوذاً ، وهي جواز مشاركة المسلمين في الجيش الأمريكي الغازي لبلاد المسلمين ، يقول : وأرى أن موافقتي على هذه الفتوى التي أقرها عدد من الإخوة الفضلاء المشغولين بالشأن الإسلامي والشأن العالمي ، مردها إلى عدم معرفتي معرفة كاملة وواضحة بالواقع الأمريكي ، وأن من حق الجندي في الجيش أن يعتذر عن عدم مشاركته في الحرب ولا حرج .
9 ـ أن يستدل المفتي بما لا يصلح دليلاً :
كمن يستدل بالعقل المجرد في المسائل الشرعية ـ الحلال والحرام والواجب ـ مما لا تعرف بطريق العقل ، بل بطريق الوحي .
أو يستدل بدليل شرعي يحسبه دليلاً وما هو بدليل ، مثل من يستدلون بحديث ضعيف أو موضوع في الأحكام .
10 ـ ألا تراعي الفتوى تغير الزمان والمكان والحال :
قال الإمام القرافي في ( الإحكام في تمييز الأحكام ) : ( إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد ـ مع تغير تلك العوائد ـ خلاف الإجماع ، وجهالة في الدين ) .
وقال ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) : ( إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال ) .
وقد مثل لهذه النقطة عدم الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات شهر رمضان ، وهو مثال بعيد جداً ، والقول بشذوذ الرأي الذي يرفض الحساب الفلكي معتمداً الرؤية فقط ، قول فيه مجازفة ..
ويمكن أن يمثل لهذه النقطة ما ذكره الشيخ محمد الغزالي في كتابه ( مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه ؟ ) إذ يقول :
( وإذا وجدوا ـ أي الغرب ـ أحداً يحدثهم عن الإسلام ويدخلهم في نطاقه السمح عادوا من لدنه يرتدون جلباباً أبيض ، وعمامة فوقها عقال ، أو ليس فوقها عقال ! أهذه دعوة إلى الإسلام أم إلى تقاليد البادية العربية ؟ ... إننا نبلّغ الإسلام النازل من السماء ، ولسنا مكلفين بنقل عادات العرب من بدو وحضر ) .
ويمثل الشاطبي في موافقاته على اختلاف العرف بمسألة كشف الرأس ، فيقول : ( فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية ، وغير قبيح في البلاد المغربية ) .
هذا .. وعلينا معرفة أن مخالفة المذاهب الأربعة أو رأي الجمهور ليست من الشذوذ بالضرورة ، كفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بإيقاع طلاق المرأة ثلاثاً بلفظة واحدة أو في مجلس واحد ، يقع طلقة واحدة ، وهي خلاف ما عليه الأئمة الأربعة ..
وكفتوى جواز رمي الجمرات قبل الزوال التي رفضها علماء الرياض حين ظهرت وعارضوها بشدة ، ثم ما لبثوا أن رجعوا إليها وتبنوها ..
وكبعض الفتاوى الخاصة للأقليات المسلمة في ديار الغرب التي أفتى بها المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث .
والله أعلم .