بسم الله الرحمن الرحيم
صور قديمة
فى خطوات ثابتة , متزنة , تملأها الثقة.. خطوات من تعود أن يسير على القمة , أن يلمس بيديه النجوم
دخلت إلى قاعة المحاضرات . كالعادة .. المدرج يضج بالطلبة ــ انتشيت بصوت ضجيجهم وهمهمتهم
رفعت عينى إليهم .. صمتت الشفاه , وشدت إلى الأبصار .. إنتابنى ذات الشعور الذي أشعر به كلما
دخلت إلى هذه القاعة .. شعور الملكة وسط رعيتها , محاطة بالابتسام على الوجوه , والترحيب فى
العيون .
بدأت أحلق فى سماء مملكتي.. لم أكن أبحث عما سأقوله .. كانت الكلمات تعرف طريقها وحدها فتخرج
طيعة لينة ـ ألقى بها كما يلقى الصياد الماهر بشبكته فإذا بها تحوى كل العقول والآذان والعيون ..
أمسك بأطرافها بإحكام , ولكن ليس من أجل أن أشدهم إلى الشاطئ , ولكن لأسبح بهم ومعهم فى بحور
واسعة من العلم والمعرفة .. لا أميز فيهم ملامح أو أرى أشخاصا ــ لا أراهم إلا من خلال تكتلهم ,
واجتماعهم على المدرجات .
بعد انتهاء المحاضرة تحلق الطلبة حولي .. بدأوا في مناقشتي ــ جذب انتباهى أسئلة ذكية تدل على
نبوغ لإحدى الفتيات .
تأملتها .. راعتنى جدية وصرامة لوجه مستدير فى رقة , يحتضنه شعر قصير جدا , وعينين سوداوين
ذات نظرات نافذة , لكنها جريحة , محزونة . شعرت بألفة تربطني بهذا الوجه , وكأني أعرفه منذ
زمن طويل .
قلت صادقة : أتوقع لك تفوقا .
قالت ( فى إصرار وبصوت هامس وكأنها تخاطب نفسها ) : يجب أن أنجح , وأن أتفوق ــ
لابد أن أصبح شيئا عظيما .
أصابني دوار مفاجئ, وخفق قلبي بعنف .
في طريق العودة كنت أهرول , وكأني أحاول الهرب من شىء ما, والكلمات تدور فى رأسي المصدوع
( يجب أن أصبح شيئا عظيما ) ــ الكلمات مفتاح فتح نافذة أغلقتها منذ زمن , فهبت رياح قوية على
أعماقي , تبعث بالماضي , وتطير أوراقه , وتعيد شريط الذكريات , وتجعله يلف من جديد
تبعثر الصور المخزونة فى الأعماق
تطفو فوق السطح صورة غائمة .. تتضح الصورة
والصورة لطفلة وقفت تسأل : أمى .. أين أبى ــ أريد أن أراه ؟
تحتضن الأم الطفلة , تحكى :
كان المخاض يدق دقات الألم , جدران بطنى المتكور , فجاء صوته أكثر إيلاما : يكفينى ثلاثة بنات
إذا جاءت الرابعة , فأنت طالق .
لم أكن أجسر على مخالفة أوامره .. لو بيدى ما خالفته , ولكن إرادة الله كانت أقوى ــ فأتيت , بصراخ
متواصل أثبت وجودك , وتحديته .
وبهدوء وبساطة رحل ــ ترك الأسرة , ذهب يبحث عن الولد فى بيت آخر, ومع زوجة أخرى .
للحيرة والضياع ترك أم مكبلة بعجزها ترعى أسرة , وأفواه صغيرة جائعة .
تهتز الصورة .. ترتعد .. والدمعة الساخنة تنزل على خدي ــ تلسعه ..
تطفو صورة أخرى .. الطفلة تغدو فتاة يانعة , تتفجر أنوثتها , ولأنها كانت أنثى ــ رحل الأب بعيدا
شتت أسرتها , يبحث عن الولد المنشود . وتكفيرا عن ذنب لم يكن لها فيه يد .. كرهت أنوثتها ..
رفضتها , أخفتها .
اقتربت الفتاة من أمها , احتضنتها , وعدتها : لن أجعلك تندمين على إنك لم تنجبي ولدا .
( سأصبح شيئا عظيما تفتخرين به , وتعتزين ) .
تغيم الصورة , وتبتعد..
وبفكر مضطرب , وأنفاس لاهثة .. دخلت إلى منزلي .. ضربات قلبي تدوي بين أضلعي كبندول
ساعة .. يتصبب العرق باردا من منبت شعري , ويتركني أرتعد .
نظرت حولي .. سرت فى جسمي قشعريرة ــ شعرت بجدران المنزل حولي تطول , وتطول ..
تصبح وكأنها سور سجن يحيط بى .. تشع برودة ثقيلة تلفني .. خيل إلى أنى سمعت صوتا ..
أنصتت .. لم أسمع سوى صوت أنفاسي اللاهثة , تردد صداها الجدران الخالية .
أتذكر أخواتي الثلاث وقد رحلن الواحدة تلو الأخرى ــ صورة من الأم المقهورة فتحن بيوتا , وأنجبن
أطفالا . وصورة أخرى تطفو من ملف الذاكرة :
( أصبحت الفتاة امرأة ناضجة ) .. تقول لها الأم :
أرجوك .. اقبليه زوجا . أنا أمك , أعرف مصلحتك , وهو إنسان ممتاز , والعمر ياابنتى يجرى .
تقول الابنة في إصرار : لن أكون صورة منهن , آلة تفريخ لرجل يأمر فيطاع .أرفض .. أرفض .
وكمن يستيقظ فجأة بعد يوم ثقيل ــ أو تفتح عيناه بعد عمى طويل ..
أشعر فجأة بالوحدة ــ بالغربة تجتاح روحي
بالجدران تشع برودة ــ تتغلغل في أعماقي .. أبحث عن غطاء .. أتدثر ..
والصورة فى هذه المرة قاتمة :
الأم مريضة على فراش الموت , والأبنة باكية بجانبها ــ تنظر الأم لإبنتها ــ تترقرق دموع فى
عينيها .. تقول : كم كنت أتمنى أن أطمئن عليك قبل أن أرحل
تثور الإبنة .. تغضب : ألم تطمأنى بعد كل هذا ..
شهاداتي تملأ كل جدران الغرفة .. بكالوريوس , ماجستير , دكتوراه , شهادات تقدير , ومركز
مرموق .. واحترام فى كل مكان ... ماذا بعد يجعلك تخافين ؟؟
_ تمنيت للساق القوية أن يصبح لها فروع .. وغصون .. وأوراق..
أخشى أن تظل شجرتك ياابنتى عارية
أخشى أن تلفح رياح شتاء العمر الشجرة الجرداء ..
أخش عليك برد الشيخوخة أخش ألا تجدى من يؤنس وحشتك .
_ لا تخش شيئا .. تؤنسني أوراقي , أبحاثي , تلامذتي سيملؤن على المكان ..
تظلم الصورة ــ يغلف المكان بالسواد , وتلفني ظلمة ثقيلة ..
ودموع ساخنة على وجنتي ــ والعرق يتصبب من كل خلايا جسدي ..
والبرودة تسرى فى أعماقي ــ تسحق عظامي
ألتف فى الغطاء .. أتدثر .. أتكور ..
تمس يدى جدران بطنى ..
أحلم .. أتخيل .. أن البطن يكبر , ويتكور
فى الداخل يرقد طفل يدق الجدران بقدميه ..
أحلم .. أتخيل .. يكبر .. أسمعه .. يضحك .. يبكى
يتفجر الحنان فى جسدي
أتمنى أن ألقمه ثدي .. أمد يدي لأحتضنه
ترتطم اليد بجدران البطن الخاوي
ينفجر الدمع .. أبكى .. أبكى
تهتف صرخة فى أعماقي
( من سرق عمري ) ؟؟؟؟؟؟