بالرّوح بالدّم...
"بالرّوح بالدّم نفديك يا شهيد" " يا أمّ الشّهيد لا تزعلي كلّ الشّباب اولادكِ"... هتافات تعالت في جوّ ثوريّ غاضب، وزاد من حرارة الجوّ لهيب الكلمات المشعلة بالدّماء التي انسكبت عنبرا، وساحت مسكا ... فتجمّرت الوجوه الملفوحة بلهيب الهتاف...
في آخر هذا الموكب الجنائزيّ الغاضب المهيب، كانت سلوى تسير بتؤدة، وبلعومها يبتلع الكلمات التي تحاول النّطق بها، فلا تستطيع مشاركة زميلاتها اللواتي تركن مقاعد الكلّيّة، وخرجن لتوديع الشّهيد والاحتجاج... تتباطأ وهي التي اعتادت أن تكون في المقدّمة هاتفة، وزميلاتها يرددن خلفها...
تنظر إلى الأفواه، فتراها فوّهات تقذف حمم الكلام... فتارة تتّسع، وطورا تضيق إلّا فاها، فقد تشنّجت شفتاه، ولم تستطع الكلمات الانفلات من بين تلكما الكمّاشتين اللّتين أطبقتا... وأذناها كأنّهما فقدتا حاسة السّمع، فلا تسمع سوى هتافها الدّاخليّ مردّدا كلمة" خطيِّة"!
حاولت الهرب دائما من شبح ذاك اليوم الطّفوليّ، وقتل الغول الذي أرعبها طويلا، ونفشَ شعر الحقد والغضب مرارا، فلم تفلح... وها هو الآن يهاجمها بشراسة.
كانت في طريقها إلى البيت، بعد أن لبّت طلب إحدى الجارات من العجائز، لشراء ما يلزمها من الحانوت القريب. صادفت بعض الفتية، ألقى عليها أحدهم نظرة طويلة ثمّ ابتسم، وأكمل السّير... منعها الحياء وبراءة الطّفولة من النّظر إليه، وأكملت مطأطئة الرّأس، وضاحكة في سرّها.
أحاطت بالطّريق الضّيق بعض الأشجار العالية التي اتّخذت منها العصافير ملجأ وأعشاشا لأفراخها. خالت أنّ الفتية توقّفوا عند تلك الأشجار لرمي العصافير بالحصى أو لسرقة الأفرُخ من الأعشاش، حين تلقّفت أذناها صوت أحدهم قائلا:"سنبقى هنا في انتظارك!". وما هي سوى لحظات، وإذ بيدين تطوّقانها من الخلف، وتحاولان اعتصارها، فيما الشّفاه تهاجم الخدّ وتسرق بعض القبلات، ثمّ تحاول اليدان طرحها أرضا، والذّهول يعقد اللّسان، والجسد تخور قواه ولا يستطيع المقاومة، فيقع... تلتقي عيناه بعينيها الصّارختين دهشة وفزعا لحظات، يتركها ويمضي مسرعا...
تنهض متثاقلة، والبغتة تلجمها، والقلب يكاد يقفز من مكانه، والرّجلان ترتعدان وتصطفقان، ولم تنتبه
أنّ ملابسها قد لطّخها وحل الحفرة، إلّا بعد أن أحسّت بسائل يرطّب ساقيها!
التفتت للخلف لترى الفتية يصفّقون لزميلهم ويحيّونه على جرأته، وهو يقف واجما موجّها نظره صوبها.
تحرّر الفم من تشنّجه لتطلق صرخة ممزوجة بغصّة: " الله ي و خ ذ ك... الله يوخذك". واصلت المشي، وهي ترتعد وتفكّر بوالدتها وبما ستقوله لها إذا ما لاحظت وجهها المحمرّ خجلا وغيظا، وملابسها المرطّبة القذرة!. "سأقول لها إنّي وقعت في إحدى الحفر التي تكثر في الطّريق، بينما كنت أنظر إلى سرب من الطّيور المهاجرة ..."
وشاءت الأقدار ألّا يراها أحد وهي تدخل البيت إلى الحمّام... وباتت ليلتها يسهّدها البكاء، ملتحفة الخوف، ومفترشة الغضب والحقد على الفتى!
"سلوى لماذا لا تهتفين؟!" سألتها إحدى الزّميلات. " كدنا نصل المقبرة ولم تنبسي بحرف، ولم أسمع سوى لهاثك رغم الأصوات العالية التي تحتلّ الفضاء".
أثقل عليها مارد الذّكرى حتّى الكلام، والرّدّ ...
تتقدّم الجموع، ويقترب نعش الشّهيد ابن حارتها من الحفرة التي سيوارى فيها. رأت ذلك فأسرعت الخطو؛ لتكون في الصّفوف الأماميّة، وتشاهد عمليّة الدّفن. ومع كلّ خطوة، كانت مطارق"خطيّة" تضرب رأسها فتزداد هرولتها...
" هذا هو اليوم الذي انتظرته طويلا... لقد تحقّقت عدالة السّماء، ويبدو أنّ بابها كان مفتوحا لحظة طلبتُ من الله أن يأخذه... وها هو قد أخذه؛ ليريحني من شبح ذكراه، ويداوي لي ندبات أبقت مشاعري متألّمة، وراغبة في لحظة الانتقام هذه منذ زمن..."
وصلت المكان متناسية الإرهاق؛ لتشفي غليل كلّ تلك السّنين، وتبارك لنفسها إراحتها من حمل أثقل كاهل فكرها وقلبها!
يخيّم الصّمت والرّهبة على المكان، رغم كثرة الجموع المتوافدة إليه، ولم يسمع سوى صوت التّأبين لدقائق معدودات، وصوت الطيور الفزعة في السّماء...
بدأ البعض بإلقاء حفنات التّراب بعد شمّه وتقبيله على الجسد الذي لم يكفّن، وفيما الدّموع تروي ظمأ ذاك التّراب، وإذ بصوت أنثويّ، مزّقت البّحة بعضا من ذبذباته، يمزّق سُدونَ الصّمت، ويذهل الحضور الواجم إجلالا للّحظة:
" بالرّوح بالدّم نفديك يا شهيد" ...