يا محلّقًا في سَمَائي، و مُجْتازًا بُروجَ مَدينتي،حَدّق أمَامك، سَتلْمحُ في آخَر الأفُق منارةً، شيّدتُها مِن نَبضي،و أسْرجت مصابيحهَا من نُور عيني؛كلّما غابتْ شمسُ النّهار، صارت هيَ شمسي،و يَا سائرًا بين ربُوع أبجديّتي، رويدكَ .. امشِ الهوينا ؛فالأرصفة مهدُّتها من ياسمينِ ضُلوعي،و في آخر دروبهَا تركتُ ذاتَ سَفر بعضًا منّي ،و صُندوقَا صغيرا مَلأته جُزءًا من أفْكاري،فاقرأها، و أنْتَ تقرأ؛ تذكّر أنّ تلكَ هيَ لُغتي،سرّ قلبي، سَريرتي، و روح الرّوح في جسَدي، فَأنَا لا أكتبُ عنْ فارس فؤادي فحسبُ، و ليسَ كلّ ما أكتبهُ عنّي .
أنا أكتبُ عَن المحبّة ، فلولاهَا مَا قرأتني يومًا،أكتبُ عنْ حلم معلّق في حَذوة فرس شَريد،أكتبُ عن حبّ دفين ،أنقّب عنْهُ بين خُطوط جَبيني، أكتب عن حزن يلوك قلْبَ صبيّة،و يطرحهُ زفرات على أَديم الصّفحات، أنفثُ حسَراتي في وجْه الدّفتر ؛فَيحْضنني بذَراعيه ، و يضمّد الوَرق بكفّيه جرحًا؛ زادتْ مِنْ عمقهِ دمعة جرحتْ خدي، أكتب عن فرح عاشقة؛فتقفزُ البسْمة من شفتيهَا إلىَ شَفتي ،و أحكي عن غصّة يتيم أشفقتُ عليهِ منْ نفسهِ،ليتطهّر من الضغينةِ فؤادي،و تتفجّر الرحمة في صدري، فتنحدرَ أنهارًا جارية نحو جدولهِ،وَ أكتبُ عنْ وطن عربيّ ، لا خطوط الخريطة تحدّه،و لا غايات الحكّام تقتَلعُ جذورهُ، أكتب عنْ دين خَالد،ارتضاه الله لعبادهِ ،فلا قنابل تهدّ أسسه، و لا بني صهيون بمُطفئي شعلتهِ.
فيَا منْ أرسيتَ زورقكَ بمينائي،هَذه لُغتي،أحُوك منها عَباءةً؛ ألتحفَ بهَا حين تطاردني ريح الوحْشة بصفعاتهَا ، و أنحتُ منها بيتًا آوي إليه ؛لوْ أسقطَ صَاحبي قَلبي مِن قائمة أهْلِه و عشيرتهِ، أُمارس في محرابها طُقوسَ جُنوني ،لوْ يومَا أُسْرجت قنَاديل العقْل فقط لا غيرها في مدُن العِشق، ُلغَتي عَصًا تشقّ لي عُبَاب البحْر؛فأمخُرُ بلا وجَل،دون أنْ أهابَ أسْماكَ القِرش أو الحيتَان، هِي قُمْقُمي؛يأتيني مَاردُه بِزبرجد الحَرْف وَ درر الكَلام،لُغتي بساط لا يراه إلا مَنْ عَشق الخيَال، و صَافحتْ يمينهُ يَد الريَاح، و امْتَطى الغَيْم يُفَتّش عَنْ وجْه النّور المُسْتتر خَلْفَ الضّبَاب،منْ خبّئ ذَاتَ غُروُب قُرصَ الشمسَ في صَدرهِ ،و مَنْ اخْتلَس مِنْ جَوف السَماء حفْنةَ مطر دسّها في جيبهِ.
لُغتي بَحْر بلا قرار، سَماء تتْبعها سماء،و أرض كلّما تشقّقتْ التم شَملها،لغتي كَبئر زمزم تجودُ بسيل و لا تبلغُ انتهاءً، فكلّما أنهَيت الكتابَة عنْ شَيء ما ، ظَننتني استنفذْتُ آخر حرْف في جُعبتي ، و أفرغتُ مَا في فُؤادي مِن أحَاسيس لَمّا وأدتُ بنَات أفْكاري ؛ صَاح فيَ النّبض أنْ مَازال هُناك الكثير لتكتبي عنه، و مَازال في القلْب مَا يستحق أنْ ينزفَ الوريدُ لأجْلهِ، وَ لِتَشهدَ الحواس انجابَ الأبجديَة حُروفًا ؛هي للظمْآن شَراب زلال منْه يَرتوي، و لجَائع الهَوى رغيفٌ منه يقتاتُ،و للبَاحث عَن الحكْمَة نبراس نجَاة؛فاكتبي فّإنّ في حسنِ البيَان حكمةَ للعقل تُرتَجى.و فُسحة للرّوح تُبتغى ..