جلست أتأمل الفجر المستعصي على البزوغ كنت أحاول التحكم في خيوط بطل قصتي المتمرد على استبدادي... حاولت التصالح معه عبر التنازل عن بعض سلطتي وإطلاق الخيط على غاربه...
بدت خطواته مثقلة وهو يراقب تلك الوجوه الحزينة بالخارج وهي تشيح عنه نحو الجرف القريب؛ كان الصمت المتكلم في تلك العيون الهاربة يمزق غشاوة المجهول ...
قرر أن يمسك بغد يزداد توغلا في الهروب- رغم إصراري على الإمساك بتلابيب صبحه التائه البعيد- والعودة إلى تلك التلة الصماء عن أمنيات النوارس الذبيحة على شطآن المدن العاهرة....
حمل غربته وتيهه وهمّا دفينا على كاهله وحاول بعثرة هذا الحمل الثقيل على المرافيء الغريبة. سخرت منه السنون العجاف... التهمته .. جردته من حلمه ولفضته مكسورا...
أنتبه وأطلق عنان البطل المستسلم كل هذا الزمن والحلم بالعودة بين مد وجزر.. والأفكار تتخاصم في رأسي..
- من يشد أزري وأنا أبدل اغترابي بغربة قاتلة.
تحاصره أخبار مدينته التي أصبحت مادة دسمة تلاحقه في كل القنوات والوطن الساكن في سويداء قلبه يتجذر ويكبر..
يهمس لي مرة بالعودة وأخرى يتهمني بالخيانة أو الجبن .. يسألني عن هذا الغد البعيد الذي لا يأتي... ينكز ذاكرتي ويمضي مقهقها هازئا من عجزي... اللعين أحرق حشاشتي ومزقني.. وهل يكفي التمني والبكاء لرسم طريق العودة؟؟ وهل تحمل نهاية القصص بعض عزاء؟؟؟ لمن؟؟؟ للكاتب أم القارئ أم الوطن؟؟؟
كأنه لم يرحل وكأنني لم آنس في غربتي يوما، عدت أجر سنوات القهر والفوضى خلفي لأقتحم هذا الغد المتمنع وأمزق حجاب الليل الطويل الطويل.
وعاد بطلي يجز هذه الغابة الكثيفة من الظلام الدامس الأعمى، توقف أمام ذلك الجرف اللعين المسكون بأرواح الجثث المكدسة فوق بعضها بعض .. تطلع في بعض الجماجم يسألها بلسان لخضر بنخلوف.
تمرد عليّ الكلام وسكن اللسان والأرقام في طلوع والعد بلا حدود والأصوات المخنوقة غدرا في محراب الوطن بعثت من كل حدب وصوب والحابل ينكر النابل والشرود سيد الموقف...
نظر إلي ينتظر إشارة، ذهلت، شل تفكيري فتشبثت بالتزام الحياد.. اقتربت الكلاب الناهشة، حالت بين صوتي والصدى..
بإرادة حرة انتزع السم من فمي المغلول، ناوله للكلاب المفترسة الرابضة على بوابة الفجر وهو يرمقني شامتا وكأنه يحاسبني على محدودية خيالي وضيق أفقي..
تحسست وابل عرق امتزج بدمعة فرح وأنا أحتفي بذكرى شموع أضاءت الدروب المقفرة ومهدت لتباشير الصبح المنتظر، تطلعت حولي فأحسست بالوحشة، عزمت أمري ووقفت أردد بأعلى صوتي: "قسما سنقاوم حتى نحيا" ساد الصمت بين المنظمين والحضور وهم ينتظرون سيارة إسعاف وشرطة.
تساءلت إن كنت أختلف عن بطلي، ومن يحركني أنا؟؟ !! في هذه الأثناء اقتحمت الجماهير القاعة الزجاجية يقودها الصدى نحوي ... انتشلوني وحملونا على الأكتاف وهم يرددون: هدفنا واحد...
لخضر بنخلّوف: زجال جزائري لديه قصيدة رائعة يخاطب من خلالها جمجمة " راس المحنة" يسألها سبب مآلها متخيلا سيناريوهات مختلفة لنهايتها المأساوية....