أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: // رســالة إلــى أبــي // ;

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Sep 2011
    الدولة : عمان - الأردن
    المشاركات : 29
    المواضيع : 23
    الردود : 29
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي // رســالة إلــى أبــي // ;

    والدي العزيز ..
    أكتبُ إليكَ , وأدري بأنْ ليسَ ثمّةَ هناكَ جدوى مِنْ كتابةِ رسالةٍ على هذا القدر مِنَ الألم والشكوى , لرجلٍ ما عادَ هنا ليقرأني . ولكنها هيَ الحاجةُ إليكَ يا أبي , غالبْتُها فَغَلَبَتْني .

    أبي يا أبي .. أدري بأنكَ عاتبٌ عَليَّ أشدَّ العتبْ , وأدري بأنكَ حَيثُ أنتَ الآنْ , تعيشُ بين مِطرقة التعجب وسندان الإستفهام , لأنَّ مَنْ ظَننته يوماً , أنَّه الأقربُ إليك من بين كل بَنيكْ , ما ذَرَفَ عليكَ دمعةً واحدةً بعد , ولا دَخَلَ في معركة مع الكلمات , كي يقطفَ من اللغة أبهاها , وبها يرثيكْ , ولا فَـكَّـرَ حتى بزيارةِ قبرٍ , تقول عنه حقائق الخلود , أنَّـه يـأويـكْ.
    أدري ذلك يا أبي .. أدري ذلكْ .
    ولكنني يا حبيبي مِنكَ تعلّمت , يوم سقطتْ بغداد , وسقط معها أخر أملٍ للعروبة , أنَّ الحزن الكبير لا دموع له , وأنَّ الرثاء ليس واجباً عاطفياً , على ميزانه يُقاسُ بِـرُّ الـبـررة . ذلك أنّ الجينات التي ورثتها عنك , هي أغلى وأبهى وأنقى , مِنْ أنْ أستبيحَ شاعريتها بمزاحمة الأخرين في الكتابة عنك .
    وأنا .. أنا الذي ما أحببتُ يوماً , انفاقَ كلماتي في زحمة المراثي , وسباق التباكي , على مَنْ أجدني أكثر من غيري , أولى بتلقي العزاء في رحيلهم .. صَــمَّــتُ يـوم مِــتْ.
    شيءٌ فيَّ يا أبي ماتَ بموتك , وليس ثمّة شيءٌ في الوجود يمكن له أنْ يعوّضني عن رحيلك.
    كبيراً عشتَ يا أبي .. وكبيراً رحلت . وهذا لعمري , هو الذي يُعزّيني بفشلي في استعادتك بالكلمات . ذلك أنَّ الكبار , وأنتَ الأعلمُ حتماً , لا يُواسينا عَنْ غيابهم أحدْ , ومهما حاولنا كتابتهم , يبدو ظِلَّ هامتهم على أوراقنا أكبرُ مِنْ مساحة حزننا , فنهاب الإقتراب منهم . ذلك أنَّ الموت , يزيد من سطوتهم , وصدمة الفقدان إذْ تباغتنا , تشلُّ لحينٍ حوّاسنا .. فننسحب , تاركين البكاء للأخرين.

    اليوم , وبعد مرور كل تلك السنوات على رحيلك , أريد منكَ أن تخبرني : أيُّ كلمة عساها تناسب حَدَثَ غيابك ؟!..
    رحل !!
    مات !!
    توّفي !!
    غيّبه الموت !!

    ولكنْ أيُّ موتٍ هذا الذي يستطيعُ أنْ يأخذكَ دفعةً واحدة ؟!..
    وكيف .. كيف يموت مَنْ كانتْ له قامة كقامتك , وهامة كهامتك ؟!..
    كيف يموت .. مَنْ شارك الله في صنع ضميري , وفي الحفاظ على استقامة خَطّيَ القومي ؟!..
    كيف يموت .. مَنْ كان قدوتي في الدفاع عن قيم مهددة , وقضايا مفلسة ؟!..

    أنت الذي ما تلوّث قلمكَ يوماً بما تدّفق في جيوب غيرك , ولا تجرأ أحدٌ على شراء صمتك , ذلك أنَّ مبادئك التي عليها اليوم نحيا , ما كانت للبيعْ . لذا ; ما تركتَ لأبنائك بعد رحيلك , سوى إرث القيم , وما عَلّمتَ ذُريتكَ , إلا عدم الإنحناء , مهما كانت الفجائع مفجعة.

    أتدري يا أبي , لعلَّ واحدة من أكثر ما أحببتها فيك وأجللتها , أنكَ ما جَـلَسْتَ يوماً على قارعة المواقف , فقد كنتَ دائماً أنتَ الموقف , ولذا ; رحلتَ واقفاً .. عفيفاً .. شريفاً .. نضيفاً .. مريضاً بالداء المزمن نفسه , الذي أودى برجالات ذلك الجيل : داء القومية .

    لا زلت أذكر ذلك اليوم يا أبي , ذلك اليوم الذي أعطيتني فيه مخطوطة كتابك " حكايةُ عمرٍ ..مضى " .
    لا زلتُ أذكر طلبكَ المُغلَّفُ يومها بنبرة الحزن تِلكْ .. تِلكَ التي لنْ أنساها يوماً ما حييتْ:

    " إنْ قُدّرَ عليَّ الرحيل قبل أنْ أُنهي حكايتي , فأكملْ فصلها الأخيرَ يا بُنيّْ . وعند انتهائك منه , أَودعِ الحكايةَ كلها على رفّ الأشياء .. أدري بأنَّ الغبارَ هناك , هو من سيُكفّنها , ولكني أدري أيضاً , بأنه يحدث للغبار أحياناً , أنْ يكون أكثر أمانة مِنْ كل بني البشر , في حفظ الحقائق "

    هكذا قال لي أبي في ذلك اليوم الذي كانَ يُـعِـدُّ فيه نفسه للسفر الأخير.

    اليوم ; أُمسكُ كتابكَ يا أبي , لقدْ رَحَلْت .. فهلْ أُخبركَ عن حالِ الرجال بعدك ؟!..

    لنْ أفعلْ .. اعذرني يا أبي , لنْ أفعلْ , وأظنّك تعرف لماذا.

    لكن لي عندك سؤال يا أبي , سؤالٌ كبيرٌ جدا , يعنيني كثيراً أنْ تجيبني عليه :

    لماذا أخفيتَ عني الفصل الأخير من روايتك ؟!..
    لماذا حجبت عني ما آلتْ إليه أحلامك ؟!..
    لماذا , عندما كان عليكَ أنْ تُخبرني : مِنْ أينَ تُؤكلُ الكتف , أوْلَيْتَ لي ظهركْ , وأنا الذي ما عرفتك يوماً إلا مقبلا , لماذا هناك , كنتَ شيخ المُدْبِرين ؟!..
    هل كنت تريد مني أنْ أقرأ كتاب الحياة , دون أنْ أطالعَ حرفاً واحداً منه في حكاية عمرك ؟!..

    ولماذا , لماذا يا أبي , وأنتَ الذي ما كنتَ يوماً صارماً معي , لماذا أراكَ اليوم أكثر قسوة ؟!..
    لمذا أنتَ زاهداً بزيارتي في عالم الأحلام , شحيحاً في مجالستي , راغباً عن ممازحتي , ممتنعاً عن رسم قُـبْـلَـةٍ على خدي كما كنت تفعل دائما ؟! ..
    لماذا , حينما قررّتَ زيارتي ليلة الأمس , أتـيـتـنـي بـزيّ المُحَاسِبْ ؟!.. أَبَـلـغـكَ عـنـي ما يسوؤك يا أبـي , أم لأنك مُـذْ غـيّـبـكَ الموت , ما عُـدتَ أبي , وإنما رقيبي ؟!..

    يا الله .. يا الله يا أبي , ما أصعب البقاء عند حسن ظن الموتى .
    يا الله .. ما أصعب أنْ تُسندَ ظَهركَ إلى قبرِ مَنْ تُحبْ , كلّما جلستَ لتكتب !
    ثمة متعة في الصمود .. حتى ألماً .

  2. #2
    الصورة الرمزية عبد السلام هلالي أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2012
    الدولة : المغرب
    العمر : 42
    المشاركات : 983
    المواضيع : 44
    الردود : 983
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    هي هلوسات الفقد ما أقساها وما أبلغها.
    هكذا يرحل من نحب فلا يبقى لنا إلا زيارة في حلم أو هذيانا في صحو.
    حرف ينزف وجعا وجمالا.
    رحم الله أباك وجميع أموات المسلمين.
    مودتي وتقديري أخي أحمد.
    اللهم اهدنا إلى ماتحبه وترضاه

  3. #3
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    ضربت على دفّ الوجع والفقد بكلمات تثير الشّجن
    يقعدنا فقد من نحبّ داخل أتّون من المشاعر التي لا تنطفئ نارها إلّا بذكر الله والتّسليم أنّ الموت حقّ
    رحم الله أباك وشكرا لك على خاطرتك التي أجدت صياغتها لولا بعض الهنات اللغويّة
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  4. #4
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    المشاركات : 6,061
    المواضيع : 182
    الردود : 6061
    المعدل اليومي : 0.91

    افتراضي

    لذا ; ما تركتَ لأبنائك بعد رحيلك , سوى إرث القيم , وما عَلّمتَ ذُريتكَ , إلا عدم الإنحناء , مهما كانت الفجائع مفجعة.

    السلام عليكم
    هذا الإرث هو أعظم ما يتركه الآباء لأبنائهم
    ما ترك العظماء مثل سيدنا عمر لأبنائه غير هذا ؟؟
    كانت رسالة تجهش بصمت
    شكرا لك
    ماسة

  5. #5
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    صوت قادم من بلاد الأنقياء ... قلباً

    واسلوب شديد التسديد .. سداداً


    لاعدمناك :
    الرثاء فن جليل .. يفصح عما ينطق به القلب.
    الإنسان : موقف

  6. #6

  7. #7
    الصورة الرمزية نسرين بن لكحل أديبة
    تاريخ التسجيل : Jul 2012
    الدولة : تبسة - الجزائر-
    العمر : 37
    المشاركات : 1,250
    المواضيع : 31
    الردود : 1250
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمدعبدالمجيدالرفاعي مشاهدة المشاركة
    والدي العزيز ..
    أكتبُ إليكَ , وأدري بأنْ ليسَ ثمّةَ هناكَ جدوى مِنْ كتابةِ رسالةٍ على هذا القدر مِنَ الألم والشكوى , لرجلٍ ما عادَ هنا ليقرأني . ولكنها هيَ الحاجةُ إليكَ يا أبي , غالبْتُها فَغَلَبَتْني .

    !
    لن يعود ميت إلى الحياة، و لا لقاء إلا يوم الميعاد ..لكننا نكتب حروفا و تتزف وجعا لتخفف بعض ما فينا و ما نحن بمخففين، يزيدنا التذكر ألما و حسرة ، و في التسليم راحة و هناء ..كتبت أخي هلوسات فقد فخاطبت القلب لصدق حرفك و شدة احساسك ..
    رحم الله والدك ..تذكره بالدعاء فبهذا تنفعه في قبره .
    إنّ في حسنِ البيَان حكمةَ للعقل تُرتَجى،و فُسحة للرّوح تُبتغى..

  8. #8
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    حروف البوح بوجع الفقد تقتحم القلوب بقوة وتعمل فيها خناجرها
    ولكل قلب فقده يبكيه بحروف مراثينا

    رحم الله والدك وجميع موتانا وموتى المسلمين

    دمت بخير

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  9. #9
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,124
    المواضيع : 317
    الردود : 21124
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ما أصعب الفقد وما أمره ـ حرقة وحزن وألم وجراحا عميقة في قلوبنا
    عند فقد من نحبهم ـ إلا أن هذه الجراح لا تندمل إلا بالصبر وقوة الإيمان
    أسأل الله جلت قدرته ان يثبتنا ويربط على قلوبنا وينزل عليها السكينة والطمأنينة
    رحم الله والدك ووالدي وكل موتى المسلمين. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  10. #10
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    يا الله .. يا الله يا أبي , ما أصعب البقاء عند حسن ظن الموتى .
    يا الله .. ما أصعب أنْ تُسندَ ظَهركَ إلى قبرِ مَنْ تُحبْ , كلّما جلستَ لتكتب !
    والصمت أبلغ...
    أبحرت في أرواحنا حد أغراقها
    رائعة
    بوركت وكل التقدير

المواضيع المتشابهه

  1. رســالة إلــى بطــل
    بواسطة عايدة عبد الله في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 13-03-2017, 11:26 PM
  2. رســالة شــــــيخ المجـــــاهدين الــــى المقــــاتــــل م. م. ن. ت
    بواسطة محمد دغيدى في المنتدى الحِوَارُ السِّيَاسِيُّ العَرَبِيُّ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-07-2010, 04:50 AM
  3. إلــى غائبتــي الحـاضــره ...
    بواسطة طائر الاشجان في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 15-07-2004, 03:23 PM
  4. رســالة الشعــر ... أدخل وقل رأيك
    بواسطة دموووع في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 03-01-2004, 06:13 PM
  5. (( رســالة إلى كل قزم ! ))
    بواسطة الميمان النجدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 28-10-2003, 08:12 PM