حين يأتي الشتاء ويحمل معه كل فيروسات أمراضه القاسية, وتبدأ هذه الأمراض باجتياح أجسادنا, بالرغم من جمال قطرات المطر المتساقطة التي جلست أراقبها على الشباك إلا أنني كنت اجهل أن مثل هذه المشاهدة تحمل معها مرضا يسمى أنفلونزا, اجتاح جسدي تماما كما تجتاح القوات الأمريكية بلدا فترهق البلاد والعباد.
بالرغم من أن هذه الأنفلونزا قد منعتني من ممارسة أروع فعل تعودته منذ سنين في الصباح, وهو شرب فنجان من القهوة المرّة على أنغام صوت امرأة لا تعرف كلل تسمى فيروز, لأنه من المفترض بي أن استبدل القهوة في صباح الأنفلونزا هذا بكوب من الأعشاب المغلية بالماء كما عودتني أمي منذ كنت طفلاً حين كنت أصاب بالأنفلونزا كانت تغلي لي بعض البابونج أو الميرمية لتساعدني على الشفاء.
بالرغم من أن الأنفلونزا منعتني من ممارسة التدخين بشكل عادي مع فنجان القهوة لأني كنت اشعر بان حلقي مغلق وأني أعاني من ضيق التنفس فشعرت أنني قد ابتلعت كل هزائم العرب من عصر الهزيمة, وان كل خطابات الهزائم قد استقرت بحلقي فغدا مجرى التنفس مغلق بسبب تراكم الخطابات فيه, إلا أنني أبيت إلا أن أقاوم المرض, أقوم من فراشي في محاولة بائسة يائسة مزينة بالمكابرة لهزيمة الأنفلونزا, فجبت الشوارع وزرت الأصدقاء.
في المساء اشتدت هذه الأنفلونزا لتقعدني في فراشي ليوميين متتاليين, أسقطت مكابرتي في التحدي والتمرد على الجسد المتعب.
لقد آن الأوان لأن أعترف بهزيمتي وسقوطي بالفراش نتيجة إصرار وثورة الجسد المنهك من الأنفلونزا عليّ وعلى إصراري ومكابرتي على تحديه والتمادي في إرهاقه.
لقد ثار بالجسد بكل معاني الثورة ليسقطني بالفراش, لأني كنت مستبداً تجاهه وتجاه مطالبه المشروعة بالراحة, فقد آبى هذا الجسد إلا أن يعلن عن حقه في الراحة وحقه في تقرير مصيره بالراحة على إصرار الروح بالتمادي في منعه من هذا الحق.
لقد تخيلت وآنا أنام في فراشي بغرفة يملاها رائحة المرض والبرد الذي يجعلني ارتجف أن هذا الجسد المنهك يتحول لشعب عربي أنهكه ظلم واستبداد الحاكم العربي كما أنهك جسدي الأنفلونزا وإصراري على انتهاك هذا الجسد واستبدادي تجاهه, وتتحول روحي المكابرة المستبدة إلى حاكم عربي,
هل سيستطيع هذا الشعب فعلا أن يصنع ثورة ويقعد حاكمه العربي بالفراش ويجعل من عرشه نعشه؟
دوما يخطر ببالي عبارة نابليون بونابرت التي يقول بها ( الظلم لا يصنع ثورة ... إنما الشعور بالظلم هو الذي يفجر الثورة ).
لقد كانت الأنفلونزا ظلم وقهر للجسد ولكن الجسد حين شعر باستبدادي كان بمثابة الشعور الحقيقي بالظلم حتى تفجرت الثورة بالجسد فصنع الثورة فأسقطني.
فمتى يتبلور لدى شعوبنا العربية الشعور الكامل بالظلم الواقع عليها من حكوماتها وأنظمتها الفاشستية ؟؟
وهل نحن دوما نظل خانعين للظلم بانتظار المخلص ... أم هل أدمنا الهزائم وسياستها وحتى أدبها من أمثال بإنتظار غوردو وغيرها من انتظار المخلص الذي سينزل من السماء ليحررنا ؟؟
هل سيستطيع شعب عربي يوماً من أن يجبر حاكمه المستبد على التوقف عن اضطهاده وظلمه كما أجبرني جسدي عن اضطهاده عندما بقيت مصراً على عدم الجلوس بالفراش للراحة أو تلقي العلاج اللازم ؟
هل سيستطيع شعب عربي من أن يمنع حكومته أو حاكمه من زيارة إسرائيل أو تطبيع علاقاته السياسية أو التجارية معها ؟؟
أو هل سيستطيع ذات الشعب من أن يمنع نظامه من العمل حسب المعطيات الأمريكية حسب الوصفة الطبية السياسية التي يكتبها له صيدلاني البيت الأبيض ؟
لقد استطاع الجسد نتيجة لشعوره بالظلم من تصرفاتي التي ملأتها المكابرة من هزيمة الروح وإجبارها على الجلوس بالفراش لإعطاء فرصة الجسد بالراحة نتيجة المرض, بينما شعوبنا العربية من الخليج إلى المحيط مصابة بأكثر من 1948 داء لكنها تعجز حتى الآن من أن تقول (لا) لأنظمتها, وهي دوما تنتظر المهدي والمسيح المخلص أو أمريكا لتأتي لتخلصها من عقدتها وهزيمتها ...
متى ستشعر هذه الشعوب بظلمها حتى تحقق ثورتها ونهضتها ؟؟
متى ستقول هذه الشعوب (لا) ؟؟؟ ...