بسم الله الرحمن الرحيم
بداية ونهاية
كلما اقترب الموعد المضروب للزفاف ازدادت فرحة سمية وصفوان , وفاضت فرحتهما فلم تسعها الأرض فاحتضنتها السماء , حتى جاء اليوم الموعود الذي جمعهما في قفص ذهبي جميل , طُرِّزَ بجواهر الأشواق , وزُيِّنَ بألماس الحب , وبعد أن استراحت مواكب الأفراح , وأناخ في ربوعهما الانشراح , وتم لهما الوصال غادرا العريسان موطنهما نحو مدينة الأحلام , لقضاء أيام العسل.
كانت سعادتهما بالغة لا توصف...لقد مرت كطرفة عين وومضة برق, كأنها حلم جميل سرعان ما انقضى وارتحل , ولولا انتهاء فترة إجازتهما ؛ لاستمرا في متعتهما يسبحان بين أنهار الغبطة ,وبحار الإنس , ويرتعان من حدائق الوصال كما ترتع الضأن في الوادي الخصب.
عادا وهما يصطحبان كأسا دهاقا مترعا بالآمال ؛ ليرشفا منه الحياة السعيدة الآمنة المطمئنة ,عادا والسعادة تغمرهما , والأحلام تندفع من بين عينيهما , كاندفاع الجداول بعد غيث مطير!! وقد عزما أن لا يدعا فرصة من ليل أو نهار تمر بهما إلا ويرشفان من كأس الهوى ما لذَّ وطاب , ويأكلان من خضروات البهجة , وفواكه المسرة أحلى أيامهما ولن يسمحا لشيء من المنغصات بأن يعكر صفوهما , أو ينال من حبهما وأنسهما هكذا كانا يأملان..
فهل يدرك المتمني ما يأمله أم يعترض سير الحياة بلاءُ؟.
ما أن سمعتْ ناهد بعودتهما حتى انتفضت كانتفاضة الممسوس من الجن.. عاد وحش الاكتئاب من جديد ينهش قلبها, فقد كانت حديثة عهد به ؛ حيث أصيبت
بصدمة نفسية بعد أن علمتْ بزفافهما , وظلت فترة لا يعرف الأطباء سببا لمرضها.
لكنها هذه المرة تماسكت ؛لأنها قد نسجت أحقادها في خطة مدبرة عزمت عليها , فكأنها بمثابة المسكن الذي يخفف هجمة وحش الاكتئاب , فلم تذهب إلى الأطباء كما فعلت سابقا , إنه وحش كاسر مؤذي يدهمها كلما نبا أليها أريج سعادة , أو وميض هناء يمر بصفوان وسمية فلا تستطيع التخلص منه إلا بإيذائهما , كيف تهدأ بالاً وهي تراهما يرفلان اليوم بسندس الحبور وأثواب الهناء؟...وهاهما يرتديان تاج الإنس بهذا الزفاف الذي توجهما فكيف يتم نزع هذا التاج المتلألئ الذي يثير كوامن غيضها وحقدها وحسدها, إنها لا تستطيع أن تراهما ينعمان في بساتين السعادة! ولا قدرة لها على تقبل ذلك , وكذلك يفعل الحسد بأصحابه إن تعاظمَ وأطلق سراحه , يا لمصيبتها!! , لقد انهارت مرات عديدة قبل أن يسعفها الشيطان بما ألقاه في روعها من خطته لعينة وتدبيرٍ مقيت, ولعلها قد طابت بما ألقى , واطمأنت إليه بل وعزمت عليه عزمة من دونها مفاوز الموت وقطع الرقاب.
يا الله كم أكل الحقد قلوب أصحابه , وقتل الحسد حياة أربابه !!.
في اليوم الثاني حملت نفسها بعد أن تزينت وأخذت من سوق النفاق هدية متكلفة ثمينة وذهبت إليهما في شقتهما المستأجرة , وقدمت لهما التهنئة متصنعة البسمة الصفراء على وجهها , متكلفة حسن الحديث وقلبها يغلي كغليان القدر إذا نضج محتواه , ونفسها تتهتك مرارة وحسرة !! ولهيب الغيرة يلسعها كلسع الحية الرقطاء , لتسري في دمائها سموم المكر , كما يسري النفاق على لسانها المعسول.
لم يهدأ لها بال , ولم يقر لها قرار منذ ذلك الحين, وظلت تزور سمية وتحاول استمالتها بالكلام الجميل والهدايا الجذابة , حتى بدأت سمية تشك بهذا الاهتمام الزائد , تريد أن تعرف ماذا وراءه ؟!! ولا تجد له مبررا ولا تفسيراً ؟ ورغم أنها تعلم أنها امرأة شريرة , لكنها مؤخرا بدأت تتأثر بحديثها ويتسلل إليها حسن الظن ,خصوص بعد أن أخبرتها بأنها تغيرت وشعرت بالندم لطيش أيامها السالفة.
هكذا صدقت سمية ما تنسجه ناهد من معسول القول وحسن التصرف.. وغلب عليها هذا الظن , ومع مرور الأيام انبسطت معها واستأنست بها وبادلتها الهدايا والمشاعر وأصبحت من أحب صديقاتها , وعندما بلغت الثقة بينهما حدا لا يختلجه ريب شرعت ناهد في تنفيذ ما زين الشيطان لها من مكر.
وفي أحد الأيام دخلتْ ناهد على سمية في مكتبها وبين يديها طبق فيه كأسان من الفراولة الطازج , و بعد أن ألقت التحية ووضعتهما على الطاولة وتناولت أحدهما وقعدت متكئة على كنبة كانت بجوارها لتقابل سمية , وبدت عليها علامة الارتباك , وهي تقاوم رعشة القلق التي ظهرت في اهتزاز الكأس بين يديها , حاولت إخفاء الارتباك الذي ظهر بين عينيها لتمنعه بابتسامة خفيفة , ثم قالت: عساك بخير يا سمية تفضلي اشربي كأسك فإن للفراولة أثراً في حيوية الجسم ونشاطه , كما أنها تساعد على صفاء الذهن والتفكير الجيد , أجود من الليمون الذي نحتسيه كل يوم
وقبل أن تتناول سمية الكأس ـ شكرتها وقالت : دائما أنت المبادرة , لا حرمني الله منك!
ثم تناولته وبدأت تشرب رويدا رويدا...حتى أتمته فخرجت زفرة من صدر ناهد كأنها حطت حملا ثقيلا من على ظهرها ,...أثارَ انتباه سمية ...ـ فقالت : يبدو أنك لم تنامي بالأمس جيدا , فالأرق , والقلق ظاهران عليك.
ـ تماما هو ذاك... واستمرتا بالحديث كعادتهما ثما صمتتا , ولم يطل هذا الصمت ؛ فسرعان ما قطعت ناهد سلاسل الصمت , وبدأت تُلمحُ بأن لديها عملا وترغب بالانصراف , و قبل مغادرتها ظهر عليها انبساط كأنها تعانق نشوة نصر في حظرة حبيب , أو عودة فقيد بعد يأس وطول انقطاع , لذلك جاء الارتباك مصبوغ بهذه النشوة , وتضاعف بها أكثر من بدايته... انصرفت وكأنها انفكت من عقال.
ساور سمية بعض الشك من ارتباك ناهد , وتساءلت : عن سبب ذلك الارتباك , ولكن سرعان ما استدركته بالنفي وسكنت نفسها وذهب خوفها, وانشغلت بما في يديها من عمل.
مرت الأيام ... وتراجع إقبال ناهد على سمية , فلم تعد تتردد عليها ولا تلاطفها كما كانت تفعل , وأثار هذا استغراب سمية ,وحاولت أن تربط بين ما كان منها وبين هذا الجفاء والتغير , لكنها لم تكترث لهذه الظنون وأعرضت ولم تلق بالا أو تلتفت إليه .
وفي أحد الأيام أصيب أحد أقرباء صفوان بطلقٍ ناري أثناء خروجه في مسيرة سلمية تطالب بالحرية من نظام مستبد طال فساده وأسن بقاؤه.
أسعف إلى المستشفى!! وتم الاتصال بوالديه فاصطحبا معهما خاله صفوان إلى المستشفى واللهفة والقلق والخوف تكاد تأكل قلبيهما , وصلوا فوجدوا الفتى في غيبوبة ... أسرع صفوان إلى الطبيب يسأله عن حالته!! رد عليه قائلا لقد نزف كثيرا وهو الأن بحاجة إلى دم , وعلى الفور أعطاه كرت الفحص بعد أن طمأنه بأن نسبة شفائه كبيره.
هرع صفوان للتبرع بالدم , وبعد أخذ عينه من دمه للتأكد من تطابق فصيلتيهما وكمية الدم وسلامته...كانت الطامة والمفاجأة المروعة التي لم تكن في الحسبان , ولم تخطر على بال!! يا لهول الصدمة التي تلقاها صفوان ,لقد فاجأهُ الدكتور معتذرا لن نستطيع أن نأخذ منك الدم , اندهش صفوان مستغربا : أريد أن أنقذ قريبي فهو مشرف على الهلاك , وأظن أن فصيلتي كفصيلته وأنا أولى الناس به قال له فصيلتك كفصيلته , ولكن لا نستطيع أن نأخذ من دمك شيئا.
ـ قال فما يمنع ؟.
قال له: أولى بك أن تنقذ نفسك وتنأى بها عن غيرك, بدلا من أن تهلك قريبك وتهلكها ؛!! ازدادت حيرة صفوان وانتفخت أوداجه , وضاق بكلام محدثه , وقال بصوت مرتفع ماذا تعني أفصح يا دكتور قبل أن أفقد أعصابي وتزيغ نفسي.
قال له: أنت مريض فكيف تجهل مرضك لا شك أنك تعلم به فلا تتغابَ عنه!.
انكمش صفوان وبدأ القلق يظهر عليه , قال وقد ساوره الخوف, وظهر ذلك بانخفاض صوته بعد أن كان حاداً: أخبرني ما الأمر فإني لا أعلم شيئا ؟
قال له أنت مصاب بفيروس الإيدز! ونقل الدم لأي شخص يعرضه للإصابة بهذا المرض أحظر شخصا غيرك كي نسحب منه الدم.
لم يصدق صفوان ما سمع !! وقهقه ضاحكا بهستيرية مجنونة , وسخرية محزونه قائلا: لا تمازحني أيها الرجل !! لقد خانتك معرفتك , ليس بي شيء , لقد أخطأت , أسرع في سحب الدم المقرر قبل أن يفوت الأوان وإلا شكوتك.
تناول الطبيب ورقة الفحص والقاها إليه صامتا بسخط وانصرف عنه إلى عمله فقد أغاضته سخرية صفوان وشططه,.
أخذها صفوان وذهب إلى الإدارة ليشكوه إليها كان مسرعا كأنما يسير على الجمر
دخل على المدير وهو يلهث وقد تغير لونه , والعرق يتصبب من جبينه كأنه خارج مهزوما من معركة ضاريه.
ـ لقد رفض المختص سحب الدم وسخر مني وأعطاني هذه الرشيته...متعللا بدعوى مزرية .
نظر فيها المدير ثم نظر إلى وجه صفوان , وأعاد النظر بين النتيجة وصفوان مندهشا , أقلق هذا التصرف صفوان أكثر؟ وبدأ يرتعش.
ثم قال : لماذا تنظر إليَّ هكذا؟.
ـ لقد صدقك المختص ولم يسخر منك أنت مصاب بفيروس الإيدز فعلا!!.
سقط صفوان مغشياً عليه !! ثم أفاق وليته ما أفاق , بعد أن أراقوا عليه دلوا من ماءً ,!! وضربات قلبه تنبض ووجهه مصفرٌ , كأنما مُصَّ دمه من بين عروقه , فلم يبق فيه قطرةً دمٍ واحده...
ـ قال وهو مُشتطا: مخاطبا من حوله , من أين جاءني هذا الفيروس , وأنا لا أعرف الفحش ولا السوء , هذا الفحص ليس لي , لابد من إعادته.
وانتفض ـ من سريرٍـ كان قد وضع عليه بعد غاشيته ـ مرعوبا وتوجه نحو غرفة الفحص يطلب إعادته , وبعد الإعادة كانت النتيجة كسابقتها..!
عندها أصيب بصدمة نفسية فظيعة لم يصب بمثلها في حياته ؛ إنه يرى الموت بين عينيه!! وبدأ يفكر وهو يرتعش من أين جاءهُ هذا المرض الخبيث؟! وتذكر ما كان قد نسيه في زحمة أيامه بحسن ثقته...تلك الصورة التي تُظهر سمية مع شاب يعانقها , ولم يهتدي أويعلم بأن تلك الصورة مكيدة ساقطة مدبرة من ناهد.
صعق وذاب كيانه وتهتكت أعصابه كأنما خر من شاهق أو تخطفته السباع .وأيقنَ أن اللغز القديم انفكت شفرته وبان عوارهُ بنتيجة الفحص المروعة , وأصبح شكه يقناً ... ازدحمت صور الخيانة في مخيلته!! فانهارت قواه أكثر وشعر بانتكاسة أطاحت به أرضا !! يالحمقه وخيبته , انهار كل شيء في حياته ... كل ما بناه طوال عمره تهاوى أمام عينيه في لحظة , كما يتهاوى الجدار الخرب الذي أكل الدهر عليه وشرب , لقد داهمه سيل جارف من الهموم لا طاقة له عليها! بل لا طاقة لأحد عليها مهما كانت قوته وصلابته !! أي مصيبة هذه التي انقضت عليه كما ينقض الوحش على فريسته!!.
كيف يصنع بمن ملَّكها عمره ووهبها حياته , وأعطاها مالم يعطِ أمه وأباه...! فخانته وقتلته أبشع قتله , كان يظنها الطاهرة الوديعة , وهي الفاجرة العاهرة , كيف لم يتنبه لهذا من قبل ؟ لقد أعماه الحب أن يراها على حقيقتها!!.
هكذا سكب الشيطان عليه سموم وساوسه حتى أصبحت يقنا في مخيلته , تتنا وشه كما يا تناوش الضباع بقايا ميتت الأسد , حتى أسلمته لها.
لقد طغى هذا الشعور واستولى عليه فلم يعد فيه ذرة شك بعد هذا اليقين الذي تجسد بنتيجة الفحص .. لقد كان خبا فيما مضى يالغبائه كيف استطاعت هذه الفتاة أن تخدعه وتستولي عليه وهو من هو... يا للعار يا للفضيحة!!.
ها هو الموت أمام عينيه يريد أن يبتلعه لكنه مقتول في ذهوله وغيرته أكثر من خشيته من الموت , إن مصابه في عرضه أشد عليه من مصابه في نفسه...انقبض وصاح صيحة خر على أثرها مغشيا عليه...اجتمع الناس حوله وأسرع الأطباء إليه وبعد أن أفاق نَهَرَ من حولهُ وانتفض متوجها نحو باب المستشفى كأنه أراد أمراً... ثم اشتد مهرولاً يخاطب نفسه كالمجنون خدعتني الخائنة وقتلتني والله لن أقتل حتى تقتل.
واستمر لاهثا يسابق خطاه كالريح في شوارع المدينة متجها نحو منزله لا يلتفت لشيء, حتى وصل وهو منهار القوى خائر الأعصاب , مشدود الذهن !! كأنما يلاحق الموت والموت يلاحقه !! فدخل غرفة نومه وأخرج مسدسا من دولابه , ثم اتجه إلى المطبخ ـ حيث زوجته سمية تعد طعام الغداءـ وبينما هي منهمكة تطهو ـ وقد سمعت جلبه عرفت من خلالها قدومه ـ فنادت صفوان , هل وصلت؟! لقد عدتَ مبكرا أخبرني كيف حال قريبك!!.
وفجأة وثب أمام باب المطبخ وهي تحدثه وعيناها على النار حتى لا يتلف الطعام , ولم تلتفت إليه إلا عندما سمعته يقول: فعلتِها يا خائنة!! فعلتِها يا فاجرة! قتلتني بفجورك أيتها الساقطة!!.
تسمرت في مكانها كأنها جدار حائط وقد تغير لونها وانكمش ظلها , وخنقت الفجيعة والعبرة أنفاسها , فبدت كأنها عرجون ذابل هشمته العواصف في شتاء قارس , والعرق يتصبب منها كشلال منحدر بعد يوم مطير! وكلماته تنهال عليها كأنها صواعق من السماء , فلم تسمع غلظة موحشة بهذه الصورة , ولا فحشا مقذعاً بهذا القدر من أحد طيلة حياتها , هل هذا صفوان الذي لم ترى منه نكأة قبل الآن أم شبح عفريت, ما الذي حصل؟!!.
كانت يد صفوان خلف ظهره , والمسدس في قبضته وإصبعه على الزناد , لم يمهلها!! وسرعان ما وجهه إليها وأطلق على الفور ثلاث رصاصات في صدرها النحيل أردتها أرضا تتخبط في دمائها , وهي تقول ماذا صنعت؟! وكانت آخر كلماتها : لمَ تقتلني ماذا جنيت؟! ولم تستطع اتمام الجملة , لقد لفظت أنفاسها الطاهرة وهو ينظر إليها كأنه صخرة أو وحش كاسر لم يرق لها وهو يشاهد تلك الدماء تتدفق , وهي تتلوى كما تتلوى الحمامة إذا ذبحت , وكان في يدها ملعقة قد التصقت في لحمها كما يلتصق الساطور إذا ضرب به لحم الجزور من شدة قبضتها عليها أثناء خروج روحها الطاهرة يا لهول ما صنع.
خر جاثيا على ركبتيه ذاهلاً غير مصدق أهو في يقظة أم منام؟ ... أيشاهد حلما أم حقيقة أمامه؟! لم يتمالك نفسه انهار بجوارها كأنه ميت!.
فاق من غاشيته وقلَّب المسدس بين يديه وضعه على رأسه ثم ضغط الزناد لكن لحسن حظه كان المسدس قد أفرغ من الرصاص , فسقط مرة أخرى على الأرض لا يدري كيف يتخلص من نفسه , وبعد فترة من استرخائه كأنما اهتدى لأمر... أدخل يده في جيب معطفه واستخرج التلفون وبصعوبة شديدة تلمس رقم الشرطة واتصل بهم يطلب حضورهم إليه وهنا بدأت القصة تأخذ مسارا أخر لتتكشف الحقائق وينجلي المستور.