أوراق من قريتي البائسةأراد أن لا يحيا وحيدا ؛ فقرر ركوب القطار.
الورقة الأولي
لن أتركك تركب القطار وحيدا
صخب المنزل المنزوي في نهاية القرية بالفرحة الكبرى ، ولأن الفرحة لا تكتمل إلا بفرحة صديقه فكان الفرح فرحين .
جلسا سويا لساعات طويلة ينسقان ملفيهما بعناية واهتمام حتى تكون كلية الطب نصيبهما معا وفي جامعة واحدة .
صخبت القرية فرحا فسيصبح لها بدل الطبيب طبيبين بعد أن ضنت عليهم الجامعات طويلا .
*****
ركبا قطار السابعة مساء مسافرين إلي كلية الطب بالقصر العيني .
قررا أن لا يفترقا فجمعتهما مدينة جامعية واحدة وحجرة واحدة . تشاركا السهر والعذاب والآلام والتفوق والنجاح .
كبرت أحلاهما فاتفقا علي أن يختار كل منهما قسما مختلفا ليخدمان قريتهما كل في قسمه .
تعانقت سعادتهما ولم يفترقا طيلة خمس سنوات ، فكانت تحسدهما أعين الناس وتجمعهما فرحة الأهلين .
*****
يقولون :" تنبت النيران من مستصغر الشرر "، ويقولون أيضا :"يفعلها الصغار ويقع فيها الكبار ". هكذا بدأت الشرارة بطفلين يركلان الكرة فيتشاجران ، وكلمة من هنا وكلمة من هناك ، وشيطان ينتظر ويوسوس ، ويتحول الشجار إلي معركة عنيفة بين عائلتين يسقط فيها القتيل مضرجا بدمائه عملا بالأعراف والتقاليد .
هرب القاتل وأولاده وتركوا القرية ملفحة بالسواد والأحزان وغربان تنعق بالخراب وتبحث عن مقتول.
ولولت الزوجة وصرخت علي زوجها ، وهنيهات لملمت أحزانها وجمعت أولادها دون طبيب المستقبل ، ونظرت إليهم في حدة مقررة :
- الغالي ثمنه غال .
التزم الأبناء الصمت ، فأضافت :
- سنأخذ ثأره من أفضل ما فيهم .
اكتسي المنزل بالظلام ،وفغرت أفواه الأبناء حيرة ، وتابعت الأم محذرة :
- إياكم أن تخبروا أخاكم .
ونادت الأم طبيب المستقبل ، وقالت له مهددة :
- إما أنا أو صديقك .
دهش الطبيب ، فحاول إقناعها بأنه جزء منه ، وأنه مجرد ابن عم من درجة بعيدة للقاتل ، فقاطعته الأم و أحدت له نظرها ، وقالت بلهجة قاطعة :
- انتهي الكلام.
شعر طبيب المستقبل بطعنة تنغرس في قلبه، وأن ثمة أمر ما يحاك خلف ظهره ، فسأل إخوته فأجابوه بإجابات غامضة .
سافر طبيب المستقبل ونيران تشتعل في صدره، وقلق مجهول تجاه صديقه .
وبلا إرادة و تحت إلحاح الأم وخشية غضبها ابتعد عن صديقه وأحزان الفراق تلفه وتقتله.
*****
جاء الخبر من عين مراقبة قبل تحرك القطار :
- انتظروه عند الثامنة مساء .
أطلق القطار صافرته تأهبا لمغادرة رصيف محطة مصر .ركب الصديق ولحق به صديقه ،فنظر إليه مليا وسأله مندهشا :
- لماذا جئت ؟!
فأجابه بحب جارف :
- لن أتركك تركب القطار وحيدا .
عاتبه قائلا :
- ولكنك تركتني وحيدا .
نظر إلي أديم عربة القطار خجلا ، وقال معتذرا :
- إنها أمي .
زادت حيرته ، وسأله ثانية :
- وماذا فعلت لأمك ؟!
فأدمعت عيناه ، وقال :
- أمي ضحية لعادات رثة وتقاليد بالية ،وسأطلب منها العفو والغفران فهي تحبك كما تعلم.
ساد الصمت بينهما قليلا ، ثم تعانقا طويلا ، وذرفت دموعهما فامتزجت بآهات الراكبين.
جلسا وتبادلا الذكريات الجميلة حتى أطلق القطار صافرته إيذانا بالوصول .
*****
تسلل ذئب في الظلام ، واختبئ خلف أستار من الأشجار ، وراقب ضحيته باهتمام بالغ وبلا قلب أو عقل أو ضمير .كان الطريق المؤدي إلي القرية مظلما سوي من لمبة واحدة تقف علي عمود إنارة ، وترسل أنوارها الخافتة علي استحياء .
انتظر الذئب نزول الضحية وأطلق رصاصاته الوحشية بلا وعي .تهادي إليها سقوط الشبح مكفنا في بنطاله وقميصه ، غير أن الشبح كان شبحين ، فأطلق الذئب عواء مذعورا.
اختلطت الدماء الطاهرة بالدماء الطاهرة ، وبعين زائغة نظر الصديق إلي صديقه المسجي جواره ، وبحب جارف أطلق أنته الأخيرة :
- ألم اقل لك لن أتركك تركب القطار وحيدا !!!
تحياتي
حارس كامل يوسف الصغير