المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بندر الصاعدي
إِلَى الأٌبُوَّةِ وَالأُمُومَةِ وَإِلَى الإِنْسَانِيةِ :
لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ هِيَ حَيَاتُنَا بِلَا أَطْفَالٍ , بِلَا بَرَاءَةٍ , بِلَا هَذَا الكُوَيْئِنِ الفِطْرِيِّ الغَضِّ المُفْعمِ حَيَوِيَّةً , المُتَشِّرِبِ إِحْسَاسًا , الجَذَّابِ مِنْ مَتَاعِبِ الأَيَّامِ , الوَهَجِ فِي لَفِيفِ الظَلَامِ , المُغْتَسِلِ بِمَاءِ الطَهَارَةِ . إِنَّهُ نَبْضُ الحَنَانِ , وَنَفَسُ الرِّقَّةِ , وَعَيْنُ النَّقَاءِ , إِنَّهُ غِذَاءُ الإِنْسَانِيَّةِ وَنَسِيمُ الرَّوْحَانِيَّةِ , فَدَعُونِي أَمْلَأُ حَيَاتِي بِهِ , بِمُنَاغَاتِهِ الأَفْصَحِ مِنْ لُغَةِ الكَلَامِ , بَقَهْقَهَاتِهِ الأَعْذَبِ مِنْ هَدِيلِ الحَمَامِ , أَتَوَحَّدُ مَعَهُ فِي غُمُوضِ عَيْنَيْهِ وَتَمَوُّجِ شَفَتَيْهِ , دَعُونِي إِلَى بُكَائِهِ أُهَدْهِدُهُ فَيَسْكُنَ , إِلَى ذِرَاعَيْهِ تَرْسِمَانِ فِي الهَوَاءِ مَتَاهَاتٍ هَنْدَسِيَّةً , إِلَى يَدَيْهِ تَلْعَبَانِ فِي حَدِيقَةِ وَجْهِهِ . إِلَى جَسَدِهِ المُتَمَطِّي عَلَى أَرِيَكَةِِ الذِّرَاعَيْنِ, دَعُونِي فَدَعُونِي .
لَمْ يَهَبْ لِيَ اللهُ طِفْلًا بَعْدُ , وفَضْلُهُ وَاسِعٌ وَمِنَّتُهُ عَظِيمَةٌ , فَأَسْأَلُهُ هِبَةً مِنْ لَدُنْهُ يُضْحِكُ بِهَا قَلْبِي وَيَسُرُّ نَفْسِي وَزَوجِي . غَيْرَ أَنِّيَ خَالٌ لَكَثِيرٍ مِنَ البُنَيَّاتِ , وِمِنْ بَيْنِهِنَّ بِكْرُ أُخَيَّتِي الرَّقِيَقَةِ , وَهِيَ بُثَيْنَةُ الصَّغِيرَةُ العُصْفُورَةُ البَرِيئَةُ , شَغَلَتْ مَا بِيَ مِنْ فَرَاغِ الأُبُوَّةِ , وَاسْتَقْطَعَتْ مِنْ حَنَانِي جِنَانًا وَارِفَاتٍ تَسْتَظِلُّ بِأَفْيَاءِ أَشْجَارِهَا سَاعَاتِ البُكَاءِ , وَتَحُومُ حَوْلَ حُقُولِهَا سَاعَاتِ المَرَحِ , تَقْطِفُ الأَزَاهِيرَ , وَتُجَاوِبُ فِي غِنَائِهَا العَصَافِيرَ , وَتَسْبَحُ فِي عُيُونِي تَقْتَاتُ عَطْفِي وَتَدُلُّنِي عَلَى دُرَرِ الإِنْسَانِيَّةِ والطَّهْرِ وَالبَرَاءَةِ .
فَمَا أَجْهَلَنَا نَحْنُ الكِبَارَ بِهَا , فَلَوْ أَنَّ مُتَأَمِّلًا عَقِلَ أَسْرَارَ الطّفُولَةِ لَمَلأَ الكَونَ حِبًّا وَعَدْلًا , وَلأَفَاضَ الحُنُوَّ واللِّينَ أَنْهَارًا تَسْقِي العِبَادَ وتُنْبِتُ الزَّادَ , وَلَصَهَرَ القَنَابِلَ وَالصَوَارِيخَ وَصَنَعَ مِنْهَا مَلَاعِبَ وَأَراجِيحَ , حَقًّا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ جَهُولٌ , أَدْنَى مَا يَعْقِلُهُ أَنَّهُ مَرَّ بِهَذِهِ المَرْحَلَةِ وَعِلَم مَا فِيهَا مِنْ قِلَّةِ حِيلَةِ وحَاجَةٍ إِلَى رِعَايَةٍ وتَرْبِيةٍ وتَعَطُّشٍ إِلَى حَنَانٍ واحْتِوَاءٍ , ورَغْمَ هذَا نَجِدُ يَدَهُ مَلَطَّخَةً بِدِمَائِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَبَبًا فِي ِبُكَائِهِمْ , وإِلَّمْ يَكُنْ فَشَحِيحَةً عَلَى غِذَائِهِمْ , وَلَسْتُ أَدْرِي كَمْ أَبًا فِي هذَا العَالَمِ ! يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ أبًا بَلْ إِنْسَانًا , فَحَمْدًا لله أَنْ سَنَّ لعِبَادِهِ شَريعَةً تَحْفَظُ الحقُوقَ , وِإِيمَانًا يُرَقِّقُ القُلُوبَ , وَلَهَ الفَضْلُ أَنْ أَخْرَجَ أُمَّةً تَحْكُمُ بِالعَدْلِ, بِالمَعْرُوفِ تَأْمُرُ وَعَنِ المُنْكَرِ تَنْهَى , وإِلًّا لَهَلِكَتْ أُمَمٌ جَرَّاءَ فِعْلَةِ رَجُلٍ , وَإِنَّ َفِي فِرْعُونَ لَعَبْرَةً لِلْأُمَمِ , وعَلَى مَا فَعَلهُ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّ قَضَاءٍ نُبِّئَ بِهِ فَمَا أَجْهَلَهُ وَمَا أَخْذَلَهُ .
إِنَّ الطُّفُولَةَ أَوْ _للتَّحْجِيمِ_ صَبِيَّ المَهْدِ الذِي لا يَبْلُعُ إِلَّا سَعَةَ ضَمِّ الذِرَاعَيْنِ لَهُو نَافِذَةٌ صَغِيرَةٌ إَِلِى عَالَمٍ مِنْ الإِنْسَانِيَّةٍ وَاسِعٍ , وَفَضَاءٍ مِنَ العَجَائِبِ رَحْبٍ , وَسِفْرٍ مِنَ الحَقَائِقِ عَظِيمٍ , وَكَلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمٍ جَلِيلٍ , وَمُبْدِعٍ خَبِيرٍ , وَخَالِقٍ بَدِيعٍ , وَعَلى الرَّغْمِ مِنَ تَفَانِي العلَمَاءِ وَالفَلَاسِفَةِ بإِنْفَادِ بُحُورٍ من العِلْمِ وإِجْهَادِ العَقْلِ فِي دِرَاسَةِ وتَحَلِيلِ أَسْرَارِ الطُّفُولَةِ , عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا الإِحَاطَةَ بِهَا بَلْ مِنْهُمْ مَنْ شَرَّقَ وَغَرَّبَ فَلَمْ يَأْتِ بِجَدِيدٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْغَلَ فَعَجِزَ فَشَطَحَ , وَفِي هَذَا تَغْلِبُ الأُمُّ الأُمِّيَّةُ فَلاسِفَةَ القُرُونِ . وَلَسْتُ أَدْرِي لَمَ هَذِهِ الدِّرَاسَاتُ! أَتُرَهَا لِلْوصُولِ إِلَى حَقَائِقَ تُعِينُ عَلَى التَّرْبِيَةِ الصَّحِيحَةِ اهْتِمَامًا بِالأَطْفَالِ!, أَمْ تُرَاهَا هَوَسًا بِاكْتِشَافِ الحَقَائِقِ وَتَفْسِيرِ الظَّواهِرِ! , خَيْرًا لِهَؤلاءِ مِمَّا يَفْعَلُونَ أَنْ يَبْذُلُوا جُهُودَهُمْ وَأَوْقَاتِهِمْ سَعَيًا فِي مَنْعِ قَتْلِ الأَبْرِياءِ وَحَفْظِهِمْ مِنَ الحُرُوبِ والجُوعِ والأَوبِئَةِ إِنْ أَرَادُوا فِي الدُّنْيَا صُنْعًا مَعَرُوفًا , وَلْيَدَعُوا للْأُمَّهَاتِ عَلَى ما فَطَرَهُنَّ اللهُ عَلَيْهِ تَرْبِيةَ أَطْفَالِهِنَّ , هَذَا مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِنْ أَرَادَ العَالَمُ حَضَارةً مُشْرِقَةً وَحَيَاةً رَضِيَّةً , مَعَ أَنَّ الإِسْلَامَ هُوَ الحَلُّ الأكْمَلُ والأَمْثَلُ لِصَلاحِ الشُّعُوبِ إِلَّا أَنَّ مَشِيئَةَ اللهَ تَهْدِي القُلُوبَ وَلَسْنَ سَواءً , فَمَا أَكثْرَ المُعْرِضِينَ , وَلِأَنَّ ثَمَّةَ قَضَايَا يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الشُعُوبِ فَكُلُّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْهَا , وَلَكِنْ حِيْنَ تَنَعَدِمُ الإِنْسَانِيةُ في قُوادِ العَالَمِ المَعَاصِرِ فَلَيْسَ إِلا الوَحْشِيَةَ . واللهُ حَسْبُ المُسْتَضْعَفِينَ .