أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 22

الموضوع: فتّة الحمّص

  1. #1
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.00

    افتراضي فتّة الحمّص

    فَتّة الحِمّص

    جفّ ريقُه وهو يُنادي بصوتِه الأجشّ : " على السّكين يا جبس .. على السّكين يا جبس .." ولكنْ لم يكن واحدٌ من سُكّان الحارة يُقبل عليه ويشتري ، ولو جبسة واحدة ! أطلّ من الشُّرَفِ المُحيطة بعربته - دُفعةً واحدةً - عشرون ، ثلاثون امرأة بدينة قبيحة ؛ وبدأنَ يقذفن جبساته بعُيونهنّ التي تُشبه الكُراتِ الصغيرة ، فكانت تطعنَ جبساته فوقَ عربته الخشبيّة المتهالكـة فتَفْلَعُها وتفضح بياضها ؛ ثم ترتدّ إلى محاجرها ، في وجوه أولئك القبيحات ..
    نظر بإحباطٍ شديد إلى أكوام الجبس المفلوق تراكمت على بُعد أمتارٍ فقط من بابِ بيته الأرضيّ القديم ؛ وقد افترّت كل جبسة عن بياضِها المكروه .. وكانت أذناه تلتقط من هنا ومن هناك من النوافذ المفتوحة والنوافذ المُغلقة ، ومن خلف الجدران :
    - الله لا يُعوّض عليك يا " أبو خليل " .. الله لا يُعوّضْ عليك يا " أبو خليل " ..
    لمح أحدَ الأولادِ الأشقياء يتسلل إلى كومة الجبس ، ويلتقط ربعَ جبسة ثم يلتفتُ يميناً وشمالاً ويُسدّدُ جيّداً باتّجاه صلعته .. ويقذفها بكلّ ما أوتي من قوة ، ويفرّ هارباً من زابوقة الحارة .. لم يزعل ، بل جمع بكفّه العصيرَ السائلَ على وجهه ، وراح يلعقه ويتلمّظ بشهيّةٍ فائقة !
    رآها .. إنّها "أم خليل " زوجتُه القصيرة النّمشاء ، بشحمها المتكدّس .. تخرج من باب بيتهم مُلتحفةً بالمنشفة القديمة ، وتهجم مُباشرة على رقبته المُرطّبة بعصير الجبس وبالعرق وتخنقه بكفّيها الصّغيرين وهي تصرخ :
    - قُمْ يا خامِل .. قُم .. اترك هذا الجبس الملعون .. فلن يمسّه أحد ، واصعد إلى الأحْراج وأحضر بعضَ الحطب لنبيعه ونأكل ونطعم الأولاد .. قُم لقد متنا من الجوع !!
    ردّ عليها وهو يفك كفيها عن رقبته بقرف :
    وماذا لو قبضتْ عليّ شرطة الحِراج ، وأخذوني إلى السجن ؟ هل تزورينني هناك ؟ وهل تجلبين لي معك البرتقال اليافاوي .. آه .. كم أشتهي عصيرَ البرتقال اليافاويَّ الباردَ .. المُثلّجَ ..
    وجدَ نفسَه عائداً من الأحراجِ في طريقٍ ضيّقة مليئة بالحجارة والأشواك القاسية .. وبالكاد كان يستطيع إظهارَ رأسِه من تحت كومة الحطب ؛ التي كانَ جسمُه الضئيل الناحلُ يتمايل بها يميناً وشمالاً !!
    - هل أسمع صوت سيارة الدوريّة ؟! هه ؟ لا.. لا .. مالهم وللحطب .. عليهم لعنة الله .. أريد أن أشرب ، أريد أن أشرب .. أكاد أموت يا أم خليل من العطش .. الثروة الحراجيّة مهمّة لتلطيف الطقس وجلب المطر .. المطر المطر .. أين المطر .. أنا عطشان يا ناس ، أنا عطشان .. "
    وأمام باب بيتهم يضع عن ظهره كومة الحطب التي أنقضت ظهره .. وفجأةً يصيح بأعلى صوته : " أوقفوا لسانَ هذه العجوز الخرقاء عني .. أسكتوها .. هل أنا الذي زرعتُ الجبس يا ناس؟! هل أنا بداخله لأعرف ما إذا كانَ أبيضَ أو أحمر ؟! وهي هي نفسُها كانت تقول لي كل يوم : بِعْ على السكين ، بِعْ على السّكين، الكلّ يبيع على السكين بِعْ على السّكين .. سكّين في بطنك يا أم خليل !
    جلس على كومة الحطب ، وأخرج من جيبه منديلاً قذراً وراح يمسح عرق جبينه وعنقه .. وفجأة مجموعة من الشباب والفتيان والصبيان والأولاد والنساء حتى شيخ الجامع " أبو مُطيع "! تراكضوا جميعاً من هنا ومن هناك ، وتحلّقوا حولَ عربتِهِ المُعَرّمة بالجبس السليم .. وخرج من بينهم رجلاً يعرفه .. إنّه مُدير المدرسة " الأستاذ فارس " .. استلّ سكيناً كبيراً وراح يصيح :
    - جبس على السّكّين ، جبس على السّكّين .. تعالوا إلى جبس " أبو خليل " .. أحمر يا جبس أحمر يا جبس .. ويتدافع الحشد من حوله صائحين :
    - أعطني واحدة .. وأنا أيضاً .. وأنا أيضاً واحدة الله يخلّيك .. جبس لذيذ يا سلام .. وكان الأستاذ فارس يشدّ يده على مقبض السّكّين ويُغمدها في الجبسة ، ثم يشقّها نصفين فتنشطر عن لونٍ أحمر فاقع ! وبذورٍ سوداء كالليل الدامس ! ويدفع بها إلى أحدهم وهو يصيح بحماس :
    - ذُق .. ذُق الحلاوة .. خذ على حساب " أبو خليل " !
    ثم يلتفت إلى جبسة أخرى ويشقّها ، فإذا هي أيضاً حمراء كالدم ! ثم ثالثة فرابعة فخامسة ..
    - كُلْ على حساب " أبو خليل " !!
    و كان أبو خليل يُراقب هذا المشهدَ الذي يجري أمامه وهو لا يُصدّق عينيه .. إنّه جبس أحمر جبسُه هو أحمر ! والناسُ تأكل منه في الشارع بمنتهى الشّرَهِ والتلذّذِ .. فصاحَ بأعلى صوتهِ :
    - أنا عطشان .. عطشان ، اقذف لي قطعة جبس يا أستاذ فارس ، الله يرحم والديْك ، أنا عطشان عطشان ...
    أفاق على صوت أم خليل وهي تصيح :
    - خذ اشرب .. بسم الله الرحمن الرحيم .. نصحتُكَ مئة مرّة ألاّ تأكل فتّة الحمّص قبل النوم ، ولكن لا فائدة ، تتعشّاها وتنام .. وتأتيك الكوابيسُ !!

    **************
    - أهل مدينة اللاذقية يُسمّون البطيخ الأخضر : ( الجَبَس ) ، والبطيخَ الأصفرَ : ( البطيخ ) دون إضافة إلى الأصفر . وفي ليبيا يُسمّون البطيخَ الأخضرَ ( الدّلاّع ) ، ويُسمَونه في الإمارات ( يَحْ ) .
    - " على السّكين " عبارة مَحكيّة في اللاذقية ، ومعناها أن يفتح البائعُ بالسكين جزءاً من الجبسـة ليراها المشتري قبل أن يدفع ثمنها ، فإذا أعجبته أخذها ، و إلاّ اختارَ واحدة أخرى غيرَها .
    اللهمّ لا تُحكّمْ بنا مَنْ لا يخافُكَ ولا يرحمُنا

  2. #2
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    يراود البعض عند النوم بعض الواقع اليومي
    وهنا كان السرد ماتع أنيق اللغة
    ترتقي لذائقتي النصوص التي تجعلني أبحر وراء معجميات بعض كنوزها
    دمت ببهاء وألق
    ومرحبا بك أديبنا بواحتك
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    قصّة جميلة الحبك والسّرد بقفلة مباغتة... كلّ ذلك كان حلما!
    بيع البطّيخ على السّكين فيه خسارة... ذكّرتني القصّة بأجواء الرّيف الفلسطيني
    بوركت أستاذ حمزة
    تقديري وتحيّتي

  4. #4
    الصورة الرمزية مرمر القاسم أديبة
    تاريخ التسجيل : May 2010
    الدولة : حيفا
    العمر : 46
    المشاركات : 2,201
    المواضيع : 95
    الردود : 2201
    المعدل اليومي : 0.43

    افتراضي

    في فلسطين "بطيخ ع السكين" بائع وشاري كلاهما يراهن على لون ومذاق.
    ليت كل ما نتمناه وواقعا نراه حلما،ففي الحلم عزاء ودفع إلى تعزيز الإرادة والسعي نحو تحقق الشيء الذي يرنو إليه الفرد.

    قوافل زهر
    لا يكفي أن تطرق باب الإنسانية لتحس بمجيئها نحوك, عليك أن تخطو تجاهها , و التوقف عن الإختباء خلف الزمن,امرأة محتلة

  5. #5
    الصورة الرمزية الطنطاوي الحسيني شاعر
    في رحمة الله

    تاريخ التسجيل : Jun 2007
    المشاركات : 10,902
    المواضيع : 538
    الردود : 10902
    المعدل اليومي : 1.77

    افتراضي

    قصة جميلة التسلسل من معاشنا و ايامنا
    رائعة وختامها جبس
    اقصد جبس احمر
    لكن افضل انها احلام على الاقل قد يكون الواقع افضل
    تحياتي لقلمك الذي القى الينا البسمة العزيزة في هذه الايام
    انت مبدع اخي مصطفى حمزة
    دمت لنا قاصا مبدعا ورائعا

  6. #6
    الصورة الرمزية وليد عارف الرشيد شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2011
    الدولة : سورية
    العمر : 60
    المشاركات : 6,280
    المواضيع : 88
    الردود : 6280
    المعدل اليومي : 1.39

    افتراضي

    رائعة يا ابن اللاذقية عروس البحر ... رائعة المعالجة والسرد واللغة الآسرة .. كم أجدت إقحامنا في تفاصيل كوابيس أبو خليل ...
    وكم ذكرتني بفتتة الحمص وما كانت تفعله بنا صيفًا أيام الامتحانات الجامعية ...
    سررت واستمتعت بقصتك أيها المبدع الجميل
    مودتي وكثير تقديري كما يليق

  7. #7
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    حبكة بديعة وسرديّة مشوّقة وقفلة مباغتة وملفتة
    وقصة شدَتنا بتفاصيلها وذكاء توظيف الحدث العادي في توصيف المعنى العميق للمعاناة الانسانية

    جميل ما قرأت هنا وماتع
    أهلا بك أديبنا في واحتك

    تحيتي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  8. #8
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.00

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة آمال المصري مشاهدة المشاركة
    يراود البعض عند النوم بعض الواقع اليومي
    وهنا كان السرد ماتع أنيق اللغة
    ترتقي لذائقتي النصوص التي تجعلني أبحر وراء معجميات بعض كنوزها
    دمت ببهاء وألق
    ومرحبا بك أديبنا بواحتك
    تحاياي
    ----
    أسعد الله أوقاتك أختي الفاضلة الأستاذة آمال
    نعم ، ثمة من يرى أن الأحلام انعكاسٌ لما في العقل من أفكار أو طموحات أو تمنيات .
    تحية لذائقتك الأدبية الراقية ، ولتعبيرك الرائق الجميل
    أشكر ترحيبك بي ، ودمتِ بألف خير

  9. #9
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.00

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    قصّة جميلة الحبك والسّرد بقفلة مباغتة... كلّ ذلك كان حلما!
    بيع البطّيخ على السّكين فيه خسارة... ذكّرتني القصّة بأجواء الرّيف الفلسطيني
    بوركت أستاذ حمزة
    تقديري وتحيّتي
    ---
    الفاضلة الأديبة ، أختي كاملة
    أسعد الله أوقاتك
    الحلم بسوائل تُطفئ الظمأ ههه
    شكراً لمرورك أستاذة كاملة
    تحياتي

  10. #10
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.00

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مرمر القاسم مشاهدة المشاركة
    في فلسطين "بطيخ ع السكين" بائع وشاري كلاهما يراهن على لون ومذاق.
    ليت كل ما نتمناه وواقعا نراه حلما،ففي الحلم عزاء ودفع إلى تعزيز الإرادة والسعي نحو تحقق الشيء الذي يرنو إليه الفرد.

    قوافل زهر
    ----
    أختي الفاضلة الأديبة مرمر
    أسعد الله أوقاتك
    العبارة ذاتها عندكم ؟!
    كثيراً ما يجبر الله خواطرنا بالأحلام ! فنعيشُ العدلَ والجمالَ والحب ، قبل أن نصحو على الظلم والقُبح والكره !! ولعلّ الخيال ظَهيرٌ للحلم في هذا !!
    شُكراً لقوافل زهورك ... كم نحتاج للزهور الطبيعية في صحراء الخليج ! هه
    تحياتي وتقديري

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة