أحدث المشاركات
صفحة 1 من 5 12345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 48

الموضوع: عصيّ الدّمع

  1. #1
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي عصيّ الدّمع

    اقتُحم البيت بطريقة متوحّشة، ودخل أحد الجنود سائلا عن أحمد. لم يعترف أحد منّا باسمه، فهددنا بأخذ أمّي بدلا من أحمد، اندفعت واقفا أمامه قائلا: أنا أحمد ماذا تريد؟
    وضع القيود بيدي، والعصابة على عينيّ وقادني بقسوة إلى سيّارة الجيب التي أسرعت بنا متّجهة صوب السّجن، لكنّ صوتها المزعج لم يمنعني من الحديث مع من رافقني في هذه الرّحلة العصيبة.
    سمعت صوت صرير بوّابة ضخمة بعدما توقّفت السّيارة، وجاء من أنزلني بقوّة ضاغطا على ذراعي.. لاعنا وشاتما.
    فتحت عينيّ في غرفة التّوقيف، وإذ بنا مجموعة من الشّبان ننتظر التّحقيق. وقفنا طويلا مكبّلي الأيدي والأرجل حتّى وصل ضابط التّحقيق. وطلب إحضاري إلى غرفة منفردة.
    - اسمك؟ لم أُجب.
    - لماذا لا تجيبني؟ نظرت إليه نظرة احتقار وقلت: أنت تعرف اسمي ، فتلقّيت الصّفعة الأولى. ولمّا أبقيت عينيّ مسمّرتين في حدقتي عينيه، ازداد غيظا وأتبع الصّفعة بركلة قويّة كادت توقعني أرضا، لكنّي حافظت على اتّزاني، وبقيت واقفا بثبات أمامه.
    - ما علاقتك بالمدعو عزيز؟.. من تُسمّونه الشّهيد!
    - أنت تعرف أنّه صديقي.
    - صديقي... آآآآ صديقك... يعني أنت تعرف عنه كلّ شيء.
    - لا، لا أعرف سوى أنّه صديقي... فتلقّيت الرّكلة الثّانية، فيما كان يكرّر مستهزئا: صديقي...
    - لا شكّ أنّك مشتاق له، وإن لم تعترف بكلّ شيء ستلحق به! أين كنتم تجتمعون وتخطّطون؟ ومن هم أصحابكم ؟.. تدرك أنّي أستطيع أن أعدّد أسماءهم، ولكن، أريد ذلك منك أنت. قال وعيناه تقدحان شررا، وقبضة يده على أهبة التّوحّش.
    - لم نجتمع، ولم نخطّط. أخبرتك أنّه صديقي وزميلي في الدّراسة الجامعيّة.
    - أيعلّمونكم أساليب الإرهاب هذه في الجامعة؟ أهذا ما يزرعونه في أدمغتكم ؟ حبّ القتل والشّغب؟
    - نحن نحبّ الحياة بكرامة وعزّ وشموخ! ولا نحبّ الإذلال والخنوع... هذا ما غرسه فينا آباؤنا، وتنمّيه جامعاتنا....
    - هكذا إذًا. فلتَعِش بكرامة. وانهالت الصّفعات واللّكمات والشّتائم، ولم أفق إلّا وأنا في مكان مظلم، ورائحة الرّطوبة والعفن تزكم أنفي.. آلام في البطن تكاد تمزّق أمعائي تخالطها اعتصارات المعدة جوعا.
    جلست وقد قرفَصَت روحي لوعتي على صديقي سامر الذي غادرني شهيدا، وسياط الجلّاد قرفصت الجسد، فلم أستطع الحراك. وعيناي لم ترغبا بالبقاء مفتوحتين، فالظّلمة تلغي قيمتهما.
    وجهُ أمّي يبتسم لي، وتخبرني قسماته بشدّة شوقها وحنانها لاحتضاني... أجري نحوها حاضنا إيّاها وأبثّها همومي وجوعي وتعبي... أشعر أنّي طفل بين ذراعيها، تهدهدني فأحلم بطيور الغابة مغرّدة، وفراشات أحلامي تلاحق زهرات الرّبيع الجميلة...
    جسم غريب يحبو فوق كفّي مسبّبا خدوشا أفاقتني فزعا، وإذ بفأر يتقافز على جسمي، ولم أجد أمّي. لعنته وتمنّيت لو أبقاني حيث كنت.
    جسمي ثقيل ومرهق ولا أستطيع الوقوف، وأخاف أن تقرض جسمي الفئران. ظللت مقرفصا... أحسّ بتورّم في الوجه وبعض أجزاء الجسد، ولكثرة ما حرّكت يديّ المنهكتين لإبعاد تلك القوارض عنّي خارت قواي، وضاعت إشارات الوقت ولم أدركه.
    تثاقل جفناي مستصعبين تحمّل ظلام اللّيل، وظلمة الأفكار ووهن الأعصاب...
    الوقت ظهرا يا ولدي... أرى النّور يبسط عباءاته على الكون، والشّمس ضاحكة تدعو النّاس لمحو سحنات العبوس المرتسمة على الوجوه، وكأنّها تقول لهم هأنذا أضيء عليكم، فأضيئوا أنتم نفوسكم، وامسحوا القتامة عن قلوبكم.
    صرير مزعج كأنّه دويّ رعد يعيدني للظلمة، ويمحو الضّياء الذي أنار المكان وقلبي للحظات...
    يقتادني السّجان للتّحقيق مرّة أخرى، وتتجدّد رحلة الرّكلات والشّتائم، ويبدع المحقّق هذه المرّة بابتكار أساليب الإذلال والتّحقير، لكنّني لم ولن أهزم أمام جبروته. حافظت على أعصابي الواهنة قويّة أمامه، وتجاهلت جوعي وألمي.. هدّدني بإعادتي إلى زنزانة الجرذان، فلم آبه لتهديداته، وكان الجفاف باديا على شفتيّ أثناء ردّي، فأمر بإحضار كوب من الماء. توقّع أن أهجم عليه لأشرب فلم أفعل.. سألني: ألست عطشا؟ قلت بلى! ولماذا لا تشرب؟ هاك تفضّل واشرب. وإذا اعترفت ستشرب أطيب الأشربة، وستحظى بما يرضيك.
    لم أعره اهتماما... لحظات صمت تسود المكان ليكسرها صوت حذائه وهو يقترب منّي ليقدّم لي كوب الماء، مددت يدي فابتعد متضاحكا، ثمّ دنا وناولني إيّاه. أجبرني عطشي الشّديد على تناوله، ولكنّه كان ماء ساخنا كاد يحرق فمي!.
    أعادوني إلى الزّنزانة بعد تناول وجبة من الطّعام كانت أشبع بالسّمّ الزّعاف بالنّسبة لي. وأدركت أنّها ليلتي الثّانية في المعتقل.
    جلست برفقة أهلي وأصدقائي نتحدّث عن الدّراسة، نناقش مواضيع مختلفة، نذهب للتّسوّق ثمّ أعود إلى غرفة التّحقيق، والرّكلات والصّفعات، فيوقظني الوجع الشّديد من أحلام يقظتي، وأعود إلى وحدتي وظلمة المكان، والشّوق يحملني على أجنحة الألم إلى هناك...
    لا أدري كم مكثت... أحسست أنّ الزّمن توقّف والحياة تجمدّت إلّا من حركة لساني طالبا من ربّي فكّ كربتي، ومن نشاط خيالي الذي حملني إلى حيث أحبّ، إلى مَن نيران الشّوق إليهم صلت مشاعري، ولم تبقني هناك طويلا.
    أمشي وقدماي مكبّلتان، ويدي مربوطة بيد الشّرطيّ بعد أن نقلت إلى السّجن البعيد. الجسم يترنّح تعبا، والقيود تعيق الحركة، وعيناي تعانيان وأحاول فتحهما بصعوبة، وإذ بأذني يخترقها صوت سماعات تصدح في ساحة السّجن :
    أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
    نعم أنا مشتاق...
    توقّفت ولم أنصع لأوامر الشّرطيّ بالمشي؛ لأتأكّد ممّا أسمع، ابتلعني شعور غريب، ووجدتني ألتهم دموعي التي ذرفت غزيرة حارّة، بعد أن حُبِست وإيّاي وظلّت أبيّة عصيّة.

  2. #2
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.01

    افتراضي

    أختي العزيزة ، الأستاذة كاملة
    أسعد الله أوقاتك
    مشهد من مشاهد الظلم التي يعيش أزهى أيامه في بلادنا .. منذ عقود
    والذي أبدع في تصويره سرداً عبد الرحمن منيف في ( شرق المتوسط )
    أحسنتِ حين تركتِ الزمان والمكان في القصّة مفتوحين ليراها الكثيرون تخصّهم ، وهي كذلك
    كان الأقوى في بعض المواضع لو تركتِ التعذيب يحكي عن نفسه ، بدل أن تتحدثي أنتِ عنه
    السردُ - على قوّة اللغة - سلسٌ شائق ، والحوار مناسب لثقافة المعتقل الجامعي ، ولوضاعة المحقق الجاهل ..
    وأدخل التضمين من رائية أبي فراس شعوراً حزيناً من لون خاص ، لا سيّما حين نستحضر معه صوتَ أم كلثوم تصدح به
    بصوتها الصخريّ الرقيق ..
    تحياتي
    اللهمّ لا تُحكّمْ بنا مَنْ لا يخافُكَ ولا يرحمُنا

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,105
    المواضيع : 317
    الردود : 21105
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    ممارسات ممنهجة في التعذيب تتم في المعتقلات الموجودة في كل البلدان العربية
    إبتداء من الضرب والركل والرفس, مرورا بالصعق الكهربائي والحرمان من الماء
    والطعام وإنتهاء بالأغتصاب للنساء وللرجال على حد سواء .

    صورتي بقلمك بصياغة محكمة, ووصف دقيق صورة لهذا المشهد المؤلم
    بلغة سامقة بديعة, وبراعة في التعبير, وقدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان
    القارئ بالتأثير والإنفعال والتفاعل.
    أحييك عزيزتي كاملة على قص تمتلكين كل أدواته
    كتبت فأبدعت .. تحياتي وودي.

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    كالعادة وصفك جميل ويجعلا نعيش المشهد والقصة وكأنا من ابطالها وممن حضروها , ولكن أرى قصصك دوما مستواها افضل واقوى من هذه
    استاذتنا الفاضلة / كاملة
    تقديري لكِ

  5. #5
    الصورة الرمزية هَنا نور أديبة
    تاريخ التسجيل : Apr 2013
    المشاركات : 478
    المواضيع : 94
    الردود : 478
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة

    أمشي وقدماي مكبّلتان، ويدي مربوطة بيد الشّرطيّ بعد أن نقلت إلى السّجن البعيد. الجسم يترنّح تعبا، والقيود تعيق الحركة، وعيناي تعانيان وأحاول فتحهما بصعوبة، وإذ بأذني يخترقها صوت سماعات تصدح في ساحة السّجن :
    أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
    نعم أنا مشتاق...
    توقّفت ولم أنصع لأوامر الشّرطيّ بالمشي؛ لأتأكّد ممّا أسمع، ابتلعني شعور غريب، ووجدتني ألتهم دموعي التي ذرفت غزيرة حارّة، بعد أن حُبِست وإيّاي وظلّت أبيّة عصيّة.

    وكأنهم لم يشيدوا زنازينهم إلا لكل فارس نبيل ! وكأنهم لا يعلمون أنهم وإن قهروا أجساد النبلاء بالحبس والتنكيل ، فقوة أرواحهم تقهر السجن والسجان وعزة نفوسهم تستعصي على البوح بما يجدون ..
    قصةٌ رائعة، رسمت بدقة تفاصيلها مشهداً متكرراً في بلادنا. وتميز المشهد باللمسة الأخيرة لأديبتنا المبدعة ، بالربط بين الأمير الفارس الأسير أبي فراس الحمداني وبين فارسنا المعتقل " أحمد " في واحدة من أهم شيم الفرسان ألا وهي الصبرُ..

    دمتِ مبدعة سيدتي ودام قلمك متألقاً
    احترامي وتقديري


  6. #6
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مصطفى حمزة مشاهدة المشاركة
    أختي العزيزة ، الأستاذة كاملة
    أسعد الله أوقاتك
    مشهد من مشاهد الظلم التي يعيش أزهى أيامه في بلادنا .. منذ عقود
    والذي أبدع في تصويره سرداً عبد الرحمن منيف في ( شرق المتوسط )
    أحسنتِ حين تركتِ الزمان والمكان في القصّة مفتوحين ليراها الكثيرون تخصّهم ، وهي كذلك
    كان الأقوى في بعض المواضع لو تركتِ التعذيب يحكي عن نفسه ، بدل أن تتحدثي أنتِ عنه
    السردُ - على قوّة اللغة - سلسٌ شائق ، والحوار مناسب لثقافة المعتقل الجامعي ، ولوضاعة المحقق الجاهل ..
    وأدخل التضمين من رائية أبي فراس شعوراً حزيناً من لون خاص ، لا سيّما حين نستحضر معه صوتَ أم كلثوم تصدح به
    بصوتها الصخريّ الرقيق ..
    تحياتي
    وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته أخي الأستاذ مصطفى... أعزّك الله في الدّارين.
    شكرا لك على مرورك العبق والمثري الذي أسعد به دائما
    هي قصّة استوحيتها من حكاية شخصيّة للأخ الشّاعر رفعت زيتون، والتي لمسنا أثرها أيضا في قصيدته الرّائعة :يا ليل فاحذر جنود الفجر
    بارك الله فيك
    تقديري وتحيّتي

  7. #7
    الصورة الرمزية كريمة سعيد أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2009
    المشاركات : 1,435
    المواضيع : 34
    الردود : 1435
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    تصوير رائع لعجز آلة القمع الشرسة عن النيل من صمود أصحاب القضية ومقاومتهم الباسلة
    محبتي وتقديري
    {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}

  8. #8
    الصورة الرمزية محمد الشرادي أديب
    تاريخ التسجيل : Nov 2012
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 721
    المواضيع : 35
    الردود : 721
    المعدل اليومي : 0.17

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    اقتُحم البيت بطريقة متوحّشة، ودخل أحد الجنود سائلا عن أحمد. لم يعترف أحد منّا باسمه، فهددنا بأخذ أمّي بدلا من أحمد، اندفعت واقفا أمامه قائلا: أنا أحمد ماذا تريد؟
    وضع القيود بيدي، والعصابة على عينيّ وقادني بقسوة إلى سيّارة الجيب التي أسرعت بنا متّجهة صوب السّجن، لكنّ صوتها المزعج لم يمنعني من الحديث مع من رافقني في هذه الرّحلة العصيبة.
    سمعت صوت صرير بوّابة ضخمة بعدما توقّفت السّيارة، وجاء من أنزلني بقوّة ضاغطا على ذراعي.. لاعنا وشاتما.
    فتحت عينيّ في غرفة التّوقيف، وإذ بنا مجموعة من الشّبان ننتظر التّحقيق. وقفنا طويلا مكبّلي الأيدي والأرجل حتّى وصل ضابط التّحقيق. وطلب إحضاري إلى غرفة منفردة.
    - اسمك؟ لم أُجب.
    - لماذا لا تجيبني؟ نظرت إليه نظرة احتقار وقلت: أنت تعرف اسمي ، فتلقّيت الصّفعة الأولى. ولمّا أبقيت عينيّ مسمّرتين في حدقتي عينيه، ازداد غيظا وأتبع الصّفعة بركلة قويّة كادت توقعني أرضا، لكنّي حافظت على اتّزاني، وبقيت واقفا بثبات أمامه.
    - ما علاقتك بالمدعو عزيز؟.. من تُسمّونه الشّهيد!
    - أنت تعرف أنّه صديقي.
    - صديقي... آآآآ صديقك... يعني أنت تعرف عنه كلّ شيء.
    - لا، لا أعرف سوى أنّه صديقي... فتلقّيت الرّكلة الثّانية، فيما كان يكرّر مستهزئا: صديقي...
    - لا شكّ أنّك مشتاق له، وإن لم تعترف بكلّ شيء ستلحق به! أين كنتم تجتمعون وتخطّطون؟ ومن هم أصحابكم ؟.. تدرك أنّي أستطيع أن أعدّد أسماءهم، ولكن، أريد ذلك منك أنت. قال وعيناه تقدحان شررا، وقبضة يده على أهبة التّوحّش.
    - لم نجتمع، ولم نخطّط. أخبرتك أنّه صديقي وزميلي في الدّراسة الجامعيّة.
    - أيعلّمونكم أساليب الإرهاب هذه في الجامعة؟ أهذا ما يزرعونه في أدمغتكم ؟ حبّ القتل والشّغب؟
    - نحن نحبّ الحياة بكرامة وعزّ وشموخ! ولا نحبّ الإذلال والخنوع... هذا ما غرسه فينا آباؤنا، وتنمّيه جامعاتنا....
    - هكذا إذًا. فلتَعِش بكرامة. وانهالت الصّفعات واللّكمات والشّتائم، ولم أفق إلّا وأنا في مكان مظلم، ورائحة الرّطوبة والعفن تزكم أنفي.. آلام في البطن تكاد تمزّق أمعائي تخالطها اعتصارات المعدة جوعا.
    جلست وقد قرفَصَت روحي لوعتي على صديقي سامر الذي غادرني شهيدا، وسياط الجلّاد قرفصت الجسد، فلم أستطع الحراك. وعيناي لم ترغبا بالبقاء مفتوحتين، فالظّلمة تلغي قيمتهما.
    وجهُ أمّي يبتسم لي، وتخبرني قسماته بشدّة شوقها وحنانها لاحتضاني... أجري نحوها حاضنا إيّاها وأبثّها همومي وجوعي وتعبي... أشعر أنّي طفل بين ذراعيها، تهدهدني فأحلم بطيور الغابة مغرّدة، وفراشات أحلامي تلاحق زهرات الرّبيع الجميلة...
    جسم غريب يحبو فوق كفّي مسبّبا خدوشا أفاقتني فزعا، وإذ بفأر يتقافز على جسمي، ولم أجد أمّي. لعنته وتمنّيت لو أبقاني حيث كنت.
    جسمي ثقيل ومرهق ولا أستطيع الوقوف، وأخاف أن تقرض جسمي الفئران. ظللت مقرفصا... أحسّ بتورّم في الوجه وبعض أجزاء الجسد، ولكثرة ما حرّكت يديّ المنهكتين لإبعاد تلك القوارض عنّي خارت قواي، وضاعت إشارات الوقت ولم أدركه.
    تثاقل جفناي مستصعبين تحمّل ظلام اللّيل، وظلمة الأفكار ووهن الأعصاب...
    الوقت ظهرا يا ولدي... أرى النّور يبسط عباءاته على الكون، والشّمس ضاحكة تدعو النّاس لمحو سحنات العبوس المرتسمة على الوجوه، وكأنّها تقول لهم هأنذا أضيء عليكم، فأضيئوا أنتم نفوسكم، وامسحوا القتامة عن قلوبكم.
    صرير مزعج كأنّه دويّ رعد يعيدني للظلمة، ويمحو الضّياء الذي أنار المكان وقلبي للحظات...
    يقتادني السّجان للتّحقيق مرّة أخرى، وتتجدّد رحلة الرّكلات والشّتائم، ويبدع المحقّق هذه المرّة بابتكار أساليب الإذلال والتّحقير، لكنّني لم ولن أهزم أمام جبروته. حافظت على أعصابي الواهنة قويّة أمامه، وتجاهلت جوعي وألمي.. هدّدني بإعادتي إلى زنزانة الجرذان، فلم آبه لتهديداته، وكان الجفاف باديا على شفتيّ أثناء ردّي، فأمر بإحضار كوب من الماء. توقّع أن أهجم عليه لأشرب فلم أفعل.. سألني: ألست عطشا؟ قلت بلى! ولماذا لا تشرب؟ هاك تفضّل واشرب. وإذا اعترفت ستشرب أطيب الأشربة، وستحظى بما يرضيك.
    لم أعره اهتماما... لحظات صمت تسود المكان ليكسرها صوت حذائه وهو يقترب منّي ليقدّم لي كوب الماء، مددت يدي فابتعد متضاحكا، ثمّ دنا وناولني إيّاه. أجبرني عطشي الشّديد على تناوله، ولكنّه كان ماء ساخنا كاد يحرق فمي!.
    أعادوني إلى الزّنزانة بعد تناول وجبة من الطّعام كانت أشبع بالسّمّ الزّعاف بالنّسبة لي. وأدركت أنّها ليلتي الثّانية في المعتقل.
    جلست برفقة أهلي وأصدقائي نتحدّث عن الدّراسة، نناقش مواضيع مختلفة، نذهب للتّسوّق ثمّ أعود إلى غرفة التّحقيق، والرّكلات والصّفعات، فيوقظني الوجع الشّديد من أحلام يقظتي، وأعود إلى وحدتي وظلمة المكان، والشّوق يحملني على أجنحة الألم إلى هناك...
    لا أدري كم مكثت... أحسست أنّ الزّمن توقّف والحياة تجمدّت إلّا من حركة لساني طالبا من ربّي فكّ كربتي، ومن نشاط خيالي الذي حملني إلى حيث أحبّ، إلى مَن نيران الشّوق إليهم صلت مشاعري، ولم تبقني هناك طويلا.
    أمشي وقدماي مكبّلتان، ويدي مربوطة بيد الشّرطيّ بعد أن نقلت إلى السّجن البعيد. الجسم يترنّح تعبا، والقيود تعيق الحركة، وعيناي تعانيان وأحاول فتحهما بصعوبة، وإذ بأذني يخترقها صوت سماعات تصدح في ساحة السّجن :
    أراك عصيّ الدّمع شيمتك الصّبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
    نعم أنا مشتاق...
    توقّفت ولم أنصع لأوامر الشّرطيّ بالمشي؛ لأتأكّد ممّا أسمع، ابتلعني شعور غريب، ووجدتني ألتهم دموعي التي ذرفت غزيرة حارّة، بعد أن حُبِست وإيّاي وظلّت أبيّة عصيّة.
    أخت كاملة. كيف حالك؟ أتمنى أن تكوني بألف خير.

    لو تكلمت مخافر الشرطة في وطننا العربي لحكت لنا عن أبشه الجرائم التي ابتكرها خيال محققين أنذال تفانوا في خدمة الحاكم و نسوا خالقهم و تجاهلوا حرمة الذات اّلإنسانية فانتهكوها و نكلوا بها باساليب لا تخطر على بال. لكن قسوتهم و جيروتهم كانت عبر العصور تواجه برجال صناديد لا يخافون في الحق أحدا و يتحملون كل العذابات من أجل كرامة الإنسان.
    تحياتي أختي

  9. #9
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.72

    افتراضي

    غاب الرمز هنا واحتشدت ملامح الصراع بمهارة قصية اعتمدت الاسترجاع والحوار الداخلي في حبكتها بما يستدرج القارئ ليعيش الحسّ بكل زخمه واحتدامه
    فكان أن سالت دمعة التلقي مع التصاعد الحركي للصورة في قفلة بكت حروفها حرقة عند عصيّ الدمع

    لمشاهد القمع على امتداد البسيطة ثقلها الحسي نرنقي به النصوص الأدبية والحوارات الفكرية

    بديع قصّك دائما يا سيدة الحروف

    دمت بألق

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  10. #10
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادية محمد الجابى مشاهدة المشاركة
    ممارسات ممنهجة في التعذيب تتم في المعتقلات الموجودة في كل البلدان العربية
    إبتداء من الضرب والركل والرفس, مرورا بالصعق الكهربائي والحرمان من الماء
    والطعام وإنتهاء بالأغتصاب للنساء وللرجال على حد سواء .

    صورتي بقلمك بصياغة محكمة, ووصف دقيق صورة لهذا المشهد المؤلم
    بلغة سامقة بديعة, وبراعة في التعبير, وقدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان
    القارئ بالتأثير والإنفعال والتفاعل.
    أحييك عزيزتي كاملة على قص تمتلكين كل أدواته
    كتبت فأبدعت .. تحياتي وودي.
    أهلا بك اخت نادية ...
    شكرا لك على مرورك العبق
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

صفحة 1 من 5 12345 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. أراك عصي الدمع
    بواسطة آمال المصري في المنتدى مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 14-12-2022, 05:53 PM
  2. أراكَ عصيّ الدمع..
    بواسطة نهى إحسان زادني في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 17-10-2015, 12:50 AM
  3. أراك عصي الدمع-أبو فراس الحمداني
    بواسطة نداء غريب صبري في المنتدى مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-07-2012, 12:15 AM
  4. أرَاكَ عَصِيَّ الدمع ...
    بواسطة ياسين عبدالعزيزسيف في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 14-12-2011, 03:12 PM
  5. تشطير الإمام أحمد حميد الدين لقصيدة أراك عصي الدمع
    بواسطة د. مختار محرم في المنتدى مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 25-02-2011, 12:25 PM