موت الكتابة... في جملة من الاستعارات
لا أحب أن أتحدث كرجل برجوازي، لكن دائماً ما يحضر في رأسي تشبيه أو استعارة ملحّة، ثم تصبح لي مثل الصداع، الصداع تبتلع له قرصاً يتلبسه ثم يضغط عليه، فينحسر كالظلّ، لكن الاستعارة صداع لا يخفّ إلا بالخروج، إنه أمر يشبه الاحتقان إن أردنا الدقة وابتعدنا عن المراوغة.
ما الذي يزهّد الكاتب في الأدب؟!
هذا هو السؤال، وهو سؤال يمرّ مع كل شخص يرى أن هذا الشيء الذي يمارسه هواية، أو أو مهنة، ولا يتعامل معه على أنه مصير محتوم.
يجب أن تكون الكتابة مصيرَك المحتوم حتى لا تفارقها، أو حتى لا تفارقك بالأحرى.
يحضرني الآن - لكيلا تكون البداية عبثية - استعارة ركوب الخيل.
حين تعشق الخيل لذاتها، فإنك تحلم بامتلاك فرس، اصطبل، الفوز بمسابقة قفز للحواجز، لكنك في النهاية لا تتخلى عن ركوب الخيل مهما كان الثمن، ولو لم يبق في العالم سوى فرس واحدة، فإنك ستحاول مهما كلفك ذلك أن تكون راكب تلك الفرس.
تجنباً للتكلف، تستطيع أن تقول إن الكتابة يجب أن تكون بالنسبة إلى أهلها وأصحابها (لا أدري ما الفرق بين الكلمتين ولكنهما خرجتا من مخرج واحد على أي حال) مثل قصة الدعاية المشهورة "آخر حبة ببسي"، ومن دون ذلك لا يمكن لكاتب أن يستمر بصورة مؤكدة، بمعنى: أنه لا يمكن للكاتب أن يستمر بصورة يقينية إلا إذا تخيل أنه آخر كاتب في العالم. وحتى لو تخيل أنه آخر كاتب في العالم فإن ذلك لا يكفي، وبهذا تكون استعارة "علبة الببسي الأخيرة" غير صالحة، لأنه ينبغي له أيضاً أن يتخيل أنه آخر كاتب في العالم، ومع ذلك فإن كتابته ستمرّ دون أن يعبأ بها أحد، ويتقبل ذلك المصير برضى.
لكن المشكلة أن الكاتب الآن حين يكتب فإنه يفكر: هل يكتب الآخرون؟ هل سيقرأ لي الآخرون؟ وتحت كل إجابة اشتراطات متسلسلة، فلا تكفي "نعم" وحدها، لتجعله يستمر، بل إن "نعم" هذه مشروطة بـ"هلاّت" أخرى تتبعها، مثل: هل سيقرأ لي فلان؟ هل سيكتب عني فلان؟ هل سيباع من كتابي عدد "كذا" من النسخ؟! وكلّ هلْ تلد "هلاّ" أخرى بعدها.
مشكلة الكتابة في هذا العصر أنها مهنة "جهنمية"، وهذه أيضا من الاستعارات الخادعة، التي توهم القارئ بأنه سيطر عليها، بيد أنها لا يمكن أن تتضح له إلا بعد أن يقرأ شرحها، وصدقوني، هذا النوع من الاستعارات موجود حقاً، (هذه الفقرة كان محلها بعد الفقرة القادمة، لكنني سارعت إلى تدوينها قبل أن أنساها).
وفي ظل هذه "الهلاّت" فإنه لا أحد يستطيع أن يضمن لك شيئاً خارج محيطه الشخصي، كمثل عبد الواحد، فهو لا يستطيع أن يضمن لك أكثر من أن يقرأ لك كل ما سيصدر لك، وسيكتب عما يستطيع أو يجد أنه يستطيع الكتابة عنه، وكل ذلك كما ترى مرهون بالاستطاعة التي ليست في يد المرء نفسه، وإنما تحكمها أمور خارجة عن طوعه، فالمرء قطعا لا يخلق أفعاله بحال... كما أنه حتى لو وفى لك، بخاصة أنه يكني نفسه أبا وفاء، فثمة سؤال أخلاقي سيظل يثقل كاهلك، وإن لم يثقفها فستشعر بوطأته على قذالك وكأنه "بسطار" ثقيل: هل يستطيع هذا المسكين الأغبر الذي يمكن أن يكون ذات يوم قارئك الوحيد في العالم أن يعّول عليك بالقدر نفسه من الثقة التي تحملها أنت له؟!
قلت: إن الكتابة مشكلتها أنها مهنة "جهنمية" وهذا أس من أسس شقاء الكتاب، ومعنى الاستعارة أنها تنبني على أجيال، كلما بدأ منها جيل ألغى الجيل الذي قبل وانقطع عنه إبداعياً، ولا يبقى بعد ذلك سوى الأعمال فوق التاريخية (كما يسميها كونديرا) وهي الأعمال التي يقدّر لها بسبب أو آخر ألاّ تطولها يد الإلغاء، وهو على أي حال من وجهة نظري يكمن في أنه مضمار من مضامير إظهار قدرة الله العليم، لأن الأعمال فوق التاريخية تشتهر على حساب أعمال خير منها، ولا تغيب عنا أعمال كثيرة من هذا القبيل.
ومعنى أن الكتابة مهنة جهنمية مأخوذ من الآية في سورة الأعراف التي جاء فيها أن أهل جهنم، كلما دخلت منهم أمة لعنت أختها، حتى إذا اجتمعوا فيها جميعاً لعن آخرهم أولهم، ولعن أولهم آخرهم، وانتهت قصة مهنتهم إلى الأبد، وهكذا هي الكتابة من وجهة نظري.
ينبغي للكاتب أن لا يكون كعاشق كرة القدم على الإطلاق، وإلا فسيعاني الشقاء إلى الأبد، ولكنه يجب أن يكون مثل عاشق جمع الطوابع، يظل ملازماً لمهنته وقلمه حتى ينتهي ورق الكون وحبره، أو ينتهي هو، وهذا هو الأرجح على كل حال، وعندما يشعر أن خلاصه في الكتابة، لا فيما بعد الكتابة عندئذ يجد خلاصه، لا لشيء إلا أن خلاصه بين يديه، ومن كان خلاصه بين يديه فحريّ به أن لا يشقى أبدا.
مشكلة كثير من الكتاب أنه يتعامل بعقلية الحواة، أو السحرة، أو المشعوذين، لا بعقلية الأنبياء، الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً، ولكن السحرة والحواة والمشعوذين يكذب بعضهم بعضاً، ولا يعيش أحد منهم إلا على خسارة صاحبه، الأمر أشبه بلعبة قمار، الجميع فيها يريد أن يكسب، والجميع فيها منتهاه إلى الخسار، لماذا؟ لأن كلا منهم لا يفكر في المهمة المنوطة به، وإنما يفكر في النجاح الخاص به والنجاح المتعلق بالغير، ومن دون أدنى قدر من الإحساس بالتضحية، وهنا يكمن الدبوس الذي هو لعنة البالون الأبدية، يظل البالون إلى الأبد يخشى الدبوس، ويظل الدبوس إلى الأبد متربصاً به، وحتى لو حدث المستحيل وألغيت قوانين الفيزياء فسيظل كلاهما متمسكاً بشعوره ذاته تجاه الآخر.
وفي العالم الآخر، الذي لا يشقى فيه الكاتب بقرينه الكاتب، تجده يشقى بغريم آخر كالناقد، أو القارئ، كالحاوي، الذي يشقى دائماً بعدم إقبال الجماهير عليه، فلو أن حاوياً من الحواة جمع عشرة رجال، ثم قدّم لهم أفضل حيلة في الكون ثم لم يتفاجؤوا لأقدم على الانتحار، لا لشيء إلا أن الحاوي هذا هو مصيره، معلق بعيون الآخرين ورضاهم، بيد أنه من المفترض أن أولئك الذين شاهدوا هذه الحيلة ولم تؤثر فيهم، أنهم هم الأحق بالانتحار، لكن هذا هو مصير الحاوي الأبدي، إنه الموهوب الذي يتعلق مصيره بإرضاء "الدهماء"، ولا لعاً له.
وحتى لو رضي عنك الدهماء فما نهايتك؟ إن أقصى قدرك أن ينتج عنك برنامج تلفزيوني، أو ملحق ثقافي في صحيفة، أو حوار في إذاعة، وإن تجاوز ذلك فقد تصدر عنك دراسة، أو تعاد طباعة كتاباتك، لينخدع بها مخدوع مثلك ممن سيأتي بعدك، ثم تطمر أنت وأدبك حتى تبعث، وحين تبعث فإنك لا تدري مع من تُحشر، ولن تتجاوز هذا السقف بالغاً ما بلغ قدرك، فلماذا تكتب؟!
أنفاسي تتسارع، وهذا علامة لهاث، واللهاث أمارة تعب، فلأعجل قليلاً:
يأتي نوع أخير من الكتاب (وهو أخير بسبب تعبي لا لأنه أخير في الحقيقة)، هو ذلك الذي لا يهمه ما بعد الكتابة، ولا يهمه خصمه الكاتب، ولا يهمه الجمهور، ولكن مهنة الكتابة نفسها لديها مهن أخرى غريمة لها، وهو يتعامل مع الكتابة كزوجة أو صديقة، قد يعافها في أي لحظة، وقد يأتي ببديلة لها، وقد يتركها حين يتململ منها دون بحث عن بديلة، وقد تكون رجلاً معدداً للزوجات، وهو يحلم بالعدل بينهنّ، فلا يعدل بينهن أبداً، لأنه لا رجل يستطيع أن يعدل بين النساء ولو حرص كل الحرص، فما بالك إن كان الكاتب امرأة تعدد رجالها، وتودّ أن تعدل بينهمّ (الشدة موضوعة قصداً). لكن هذا الأخير هو أقل أنواع الكتاب الأشقياء شقاءً، ذلك أنه قد يتذكر المرأة التي عاشرته ويدمع عليها دمعتين وينسى، وقد لا يندم على فراقها إلا إن تورط في معرفة المرأة الأخرى، والأمر كما ذكرت شبيه أشد الشبه بالعلاقة بين الرجال والنساء، وليس عليك يا خالد إلا أن تعود إلى زواجك بعد أن يمضي عليه الوقت نفسه الذي مضى عليك في الكتابة، وصدقني، ستجد يومها أنك ستشعر تجاه المرأة الشعور نفسه الذي تجده اليوم مع الكتابة، وإنما أقول ذلك لأنني بدأت الأمرين معاً وفي آن: مؤسسة الكتابة، ومؤسسة المرأة. لأكون دقيقاً، بدأت مؤسسة الكتابة قبل عامين من مؤسسة المرأة، ولذا فلكي أستشرف مستقبلي مع المرأة بعد عامين أنظر إلى حاضري مع الكتابة، كما أنني حين أنسى كيف كنت مع الكتابة قبل سنتين، أنظر إلى حاضري مع المرأة، فأنظر إلى الغيب من وراء حجاب شفيف، ويتجلي لي الماضي ماثلا أمام ناظريّ الكليلين.
إن المرأتان إن المرأتان (مكرّر على لغة شاذة) لا تطيقان أن تتعايشا بلا تراتب رأسي بينهما، كالمرأة والخادمة، والسيدة والمسودة، والأم وابنتها، ومن فكر أن يحول كائنين رأسيين في قلبه الرأسي إلى كائنين أفقيين فكأنه يحاول أن يجري عملية جراحية لتتحول عيناه الأفقيتان إلى رأسيتين بين الأنف والجبهة.
أما كيف يمارس الكاتب المؤمن كتابته على الكيبورد وعمله الرسمي على الكيبورد يجعله عائفاً لهذه الآلة اللعينة، فإن قصة الأخ الشقيق لإيميلي وشارلوت برونتي، وكان رسّاما، أنه كان موظّف سجلّ القطار، وطرده سيده في العمل بسبب ممارسته الرسم على سجلاّت العمل، ولم يرد في القصة التي قرأتها أن الرسام ندم، ولا أنه مات سعيداً، وقد لا يدري أحد يدري (التكرار هنا أيضاً متعمّد وإن لم يكن له معنى).
أي أنه؛
باختصار: الكتابة قصة إيمان، وليست قصة بقاء ولا نجاح، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.