الليبرالية الجديدة
يظل موضوع تدخّل الدولة في الاقتصاد شائكًا ، ويلعب دورًا مهمًا في شرعنة مصالح الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة على مستوى الدول فيما بينهم(الخارج) وعلى مستوى الدولة الواحدة ( الداخل). حيث "الحرية" الاقتصادية محكومة بدور الدولة كمتدخّل ضامن ومسيطر في فرض الحماية لتلك الحرية فصرنا نسمع عن "الاقتصاد الحر" المسؤول عن الظروف المناسبة لتحقيق الأرباح للشركات "القومية" من منافسة الشركات المنافسة ، والواقع يرينا السياسي المتمثل بقوانين ( الدولة) وقد أصبح أداة بيد الاقتصادي على عكس ما شهدناه عبر التاريخ ، فقوّة الدولة وتفوقها مرهون بفرض شروطها على الدول الأخرى وذلك بغاية تحسين وضعها في المنافسة العالمية. وهذا مشروط بالبقاء على اقتصاد قوي لاتؤثر فيه المنافسة بل تزيد من قوته.
قامت المدرسة الليبرالية بانتشار أفكار (آدم سميث )في كتابه (ثروة الأمم) عام 1776. حين دافع عن إلغاء تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، وطالب بإزالة جميع الحواجز والقيود على التصنيع وعلى التجارة ، وعدم فرض التعريفات الجمركية. وأدى غياب ملكية الدولة إلى تنظيم عمليات الصناعة والتمويل، وبالتالي خلق مرونة في أسواق العمل الدولية ..فالدولة الأقوى هي التي تفرض المناخ الدولي لنشاطها أمام الدول الأضعف من خلال وضع القيود لحماية ذاتها خصوصًا بعد انهيار الاشتراكية وتفرد النمط الرأسمالي وقد غدت حرية الاقتصاد تؤسّس لنفي الحرية ذاتها وذلك بإبتكار انماط الاحتكار تفضي إلى انهيار شركات دول اوربا وآسيا وتمركز أخرى في رأسمالية اميركية تستغل تلك الدول ، وهو ما شهدته شركات بالغة الضخامة (متعدية القومية) مارست احتكار دفع الشركات الأقل ضخامة إلى الإفلاس عبر الاندماج المبرمج في النمط الرأسمالي جعلها متفوّقة تستحوذ بالتراكم العلمي والمعرفي واستثمار سعة الأسواق لصالحها سواء تم تنفيذ ذلك عن طريق مؤسسات مثل (صندوق النقد ) و(البنك ) الدوليين أو عن طريق اتّفاقات الشراكة أوعبر الضغط السياسي أو العسكري لأميركا. فشهدنا تراجع الدخل العام للعمال والموظفين بل وحتى تشريد مئات آلاف منهم ، حيث أصبح الاقتصاد تابعا لقرار الرأسمال الإمبريالي ..
في ثلاثينيات القرن الماضي ظهر الكساد العالمي ، فقام الاقتصادي البريطاني ( جون مينارد كينز) بوضع نظريته التي تقر بتدخل الحكومات والبنوك المركزية لزيادة فرص العمالة وانقاذ الموقف . وصمم الرئيس الأمريكي (فرانكلين روزفلت) وفق مقتضى تطبيق إصلاحات الاقتصاد لإنقاذه من الركود. فعادت الدولة لتلعب دورًا جوهريًا لضمان تحقيق النفع العام ، حتى جاءت الثمانينات من القرن الماضي ، ومعها تقليص معدلات الأرباح للشركات المملوكة من كبار الرأسماليين. وظهور الليبرالية الجديدة كعقيدة اقتصادية مسيطرة على الفكر الاقتصادي خلال الربع الأخير من القرن الماضي وحتى يومنا هذا وذلك عبر برامج واسعة تستهدف: خصخصة وحدات القطاع العام ، وإزالة القيود الحكومية ، والفتح الكامل لأسواق السلع ورأس المال ، وإتباع سياسات اقتصادية كلية متشددة ... واعتلى الليبراليون الجدد سدة الحكم في كبرى الدول المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية.
ومن أجل كل هذا ظهر مفهوم الليبرالية الاجتماعية كحركة إصلاحية ترى أن من واجب الدولة الليبرالية توفير فرص العمل والرعاية الصحية والتعليم كحقوق مدنية. وهي حركة تدعو إلى احترام الحرية الفردية وتهتم بقدرة الأشخاص على المشاركة في العمل وتعتبر أن حق العمل وحق أجر مناسب على العمل لا يقل أهمية عن حق التملك ، فكانت تسعى لتقليل نسب التضخم وتقليل البطالة لتحقيق موازنة بين الحرية الاقتصادية والمساواة بما يخدم الصالح العام..لقد ظهرت بعض الأحزاب الليبرالية الاجتماعية كحزب (الديمقراطيين الأحرار) في بريطانيا ليعالج تعارض أخلاق التسلط الليبرالي ويسعى لإشراك العمال والموظفين في صناعة القرار والقيام بتشجيع انشاء مؤسسات باحثة التوفيق بين الحرية والمساواة .. وخلال حقبة التسعينات من القرن الماضي، كان الضغط من أجل تطبيق برامج الإصلاح الليبرالية الجديدة على الدول النامية أشد وأوسع حين فشلت الإصلاحات التي تم تنفيذها في حقبة الثمانينات بعد أن زاد اعتمادها المالي على الدول المتقدمة وعلى مؤسسات التمويل الدولية. كما ساهم انهيار الشيوعية في تتبع فروض الليبرالية الجديدة. وهنا علينا تأمل القيود التي تربط أيادي حكامنا وهي مكبلة بتطبيقات الليبرالية الجديدة المفروضة من الخارج! لنعود إلى ما بدأنا به هذا المقال من أثر وتأثير تدخل الدولة في الإقتصاد .. حيث "الحرية" الاقتصادية محكومة بدور الدولة كمتدخّل ضامن ومسيطر في فرض الحماية لتلك الحرية .. ولكن وللأسف فإن دولنا محكومة بقرار خارجي مفروض عليها يصعب الفكاك عنه خصوصًا بعد الربيع العربي المشوش في رؤيته لأساسيات الأقتصاد لدولنا .