وراء " التوتة " القديمة كنا نختبىء.. كم كنا صغاراً نحيلى القد كأعواد القصب الممتدة إلى الأفق
البعيد.. كيف صنعنا بأزميل " يحيى " تلك الكوة فى جذعها فكانت تسع أحدنا متكوراً على نفسه ..
وعندما تبدأ رحلة البحث بعد نداءات " الخلاويص " تكون الكوة أول امكنة البحث.. ويكون المتكور
ضحية بإرادته .. وكأن البقاء فيها يستحق أن يكون من أجله أول الخاسرين .
انثنيت قليلاً لأمسح غبار الطريق عن حذائى اللامع بمنديلى.. فسقط منى فى " القناية " .. راقبته
سابحاً إلى حيث لا أعلم..
كنا نصطف بمحاذاة الشجرة .. ويقف " فؤاد " بعيداً لا بفارق نايه المصنوع من "البوص" ..يتطاير
جلبابه إذا هبت نسمة فى حر ذلك الصيف .. يرفع إحدى يديه ويخفضها فجأة ويبدأ بالعزف..ننطلق
جميعاً بسرعة الريح .. لا نتوقف عن العدو حتى نصل لتلك القناية .. فنقفز فوقها ونترك اجسادنا
تسقط على الضفة الأخرى .. ونظل بلا حراك حتى يأتى فؤاد عازفاً متثاقلاً .. لا يهتز لتهكمنا ولا
يوقفه المزاح عن العزف.. ويقف مشيراً بيده ونايه إلى الفائز منا والذى يبعد مكانه أكبر مسافة عن
القناية .. فيتراقص الفائز .. ويتحلق الآخرون حول فؤاد يوسعونه ضرباً وركلاً وسط ضحكات صاخبة
يضيع صداها فى رحابة المكان ..
كل ما كان كما هو .. لم يتغير مكان " التوتة " أو " القناية " .. لم تتحرك أعواد القصب .. وكأنها لم
تفارق الأرض منذ عشرين عاماً ..