من رأى منكم نساء ميدان رابعة العدوية وفتياته ؟ من التقط لهن الصور وأجرى مع واحدة من المناضلات الصابرات العفيفات الشريفات حواراً صحفياً ؟
من سجل تفاصيل المشهد وتسلسل الأحداث من خلال ملامح وتعبيرات وردود أفعال امرأة عجوز مصرية أصيلة تشبه أمهاتنا قادمة من أقاصى الصعيد لترابط فى الميدان وتتحمل المشاق حتى يعودَ الوطن حراً وحتى ينكسر الحصار الذى ضرب عليه ، وحتى تعود الأوضاع الى طبيعتها فيُطلق الشرفاء ويُسجن الأشقياء ويُعاقبون .
من رأى منكم فتاة صغيرة تُدعى سُمية وجهها كالقمر ، تحملُ الوجبات الخفيفة والمعجنات وأقداح الشاى لتوزعها بدأب وحب على المعتصمين فيشير اليها أحدهم يعرفها لنا باكبار وعزة : هذه سُمية ابنة الشهيد عماد عفت ، وقد عرفتْ من أردى أباها قتيلاً ووعيتْ القصة ، وهاهى توزع الأقداح فى حفلة الثأر .
فتيات فى عمر الزهور تقرأ فى عيونهن معانى الاباء والكرامة والشرف والوطنية ، يقرأن القرآن ، يهتفن للحرية ، يُغنين لمصر بحميمية واخلاص وحب لم أعرفه ولم أشاهده من قبل ، ونساء مصريات كأنهن نسخة طبق الأصل من شقيقاتنا وأمهاتنا وزوجة الدكتور محمد مرسى ، وكأن سيدات مصر وفتياتها من الصعيد وبحرى والاسكندرية والسويس والاسماعيلية وأسوان وأسيوط والمنيا وبورسعيد والمنصورة .. كلهن نسخة طبق الأصل من الطيبة والصدق والشرف والروح المرحة والبساطة والتجرد والتفانى والعزة .
اذهوا رابعة العدوية فهناك نساء مصر يصنعن المعجزة ويسطرن الملاحم وقد مضى على الواحدة منهن فى الميدان أكثر من عشرين يوماً ، وتقول : لا أغادر حتى تعود مصر لأهلها ولأحضاننا .
وتقولُ واحدة منهن فى وَله وشغف وقد شقت التجاعيد وجهها الأسمر : لا أعود حتى أرى بعينى مرسى وأحتضنه وأقبل جبينه .
اذهبوا رابعة العدوية فهناك نساء بآلاف من الرجال المتخاذلين القاعدين المخلفين ، أبين الا أن أن يصنعن لمصر فجرها ويرددن عليها عافيتها ويأخذن بيديها الى الخلاص والحرية ، لتقف شامخة عزيزة عالية الهامة موفورة الكرامة بين الأمم .
نساء من الصعب وصفهن ، تحلينَ بالصبر الجميل وبالصدق في زحمة أبواق الرياء والنفاق والكذب والخداع والتملق ، لا يجاهدن فى حماية الرشاش والمدفع ليعود الاستبداد والدولة البوليسية ، بل يجاهدن فى عز الحر والقيظ وتحت تهديد القتل والابادة ، ليصنعن بأيديهن المعجزة .
لتسقطَ دولة الظلم والفساد ، وليُجبرن الفراعين الصغار على التسليم والخضوع والانصياع بعد أن سقط الفرعون الأكبر .
فى رابعة العدوية نساء تحلين بالبر والوفاء .. فى حين يريدنا البعض أن نستمر في قبضة شلة فاسدة عاقة تحقيقاً لرغبات حقيرة لشلة الراقصات والغوانى .
كبلوا أيدي الشرفاء وأرجلهم وأعاقوا مسيرة النهضة والتقدم ونهبوا خيرات البلاد ووضعوها في كروشهم.. فنهض الشباب الأوفياء الأبرار والرجال الكبار والنساء العزيزات لا يرعبهم تهديد .. ولا يخيفهم إرهاب.. ولا يردهم بطش .
من أجل تحرير رقبة مصر من قبضة هذه الشلة المستهترة الفاشلة والعصابة المستبدة.. لتتنفس ونتنفس معها بعد عقود من القهر والاستعباد والكبت والظلم والفساد هواء الحرية النقي .
فى رابعة العدوية .. نساء لا يفقهن جدل المتحذلقين.. ولا ذرائع القاعدين.. ولا مبررات العبيد .. أعينهن مثبتة على السماء ، على الصبح الذي ينتظرن قدومه وهن واقفات بأقدامهن العارية على أسنة الردع يُقذفن بمنشورات التهديد والوعيد .
قالتْ لى احداهن – وهى طالبة فى الجامعة - : هذه الطائرة التى تلقى علينا هذه المنشورات البغيضة طائرة متخلفة ، تذكرنى بموقعة الجمل ، عندما كان الأحرار الذين يحلمون بمستقبل مصر وفجرها الجديد في مواجهة خيل التخلف وحمير الوحشية وبغال الجهل ونوق الطغيان ، هذه الطائرة لا تختلف فى تخلفها ورجعيتها وجهلها بشعب مصر الأبى عن بغال وحمير مبارك وأحمد شفيق .
قالت احداهن : أنا هنا أنتظر قدوم الفجر.. ولا يهمنى شئ ، لا أفكر فى يوم العودة مع زوجى وأولادى الى بيتى لنعيش عيش العبيد ، ولنظل سنين أخرى خائفين فى دولة الخوف والقهر ، ولا أفكر فى نفسى وراحتى ، ولا أفكر فى مصيرى ، انما أفكر فقط فى الفجر ، وأن أرى النور يعم الأرجاء.. وأن أرى بعينى شمس الحرية والاستقلال تشرق على مصر من جديد .
فى رابعة العدوية نساء لا ينتمين لأحزاب ، وليس لديهن أجندات ، ولا يمتلكن أيديولوجيات ، وليس لهن مآرب .. ولا ينتظرن شكرا ً ولا مدحا ًمن أحد .. تحكى الواحدة منهن بعض المواقف والمتاعب والمشاق فيشعر الرجال بالتقصير والعجز وقلة الحيلة ، حيالَ هذا الاصرار العجيب وهذا الطموح الى المعالى فى نفوس نساء مصر اللاتى تجمعن فى رابعة .
طموح لا يُوزن أبداً .. ولا يقارن بطموح وهمة آخرين ، من المخلفين القاعدين فى البيوت .
وشتان بين همة وطموح أعرابي أقصى رغباته ومنتهى أمله ناقة يركبها وعنزة يحلبها أهله !.. وبين عجوز – رغم كبر سنها – طموحها الجنة.. بل وصحبة نبي من أنبياء الله فيها .
شتان بين من يعرف جيداً موضع قبر يوسف الأمين عليه السلام الذي حكم العالم بأمانته وعدله من أرض مصر.. وبين من يضل الطريق في متاهات الظلم وضلال الكذب والخداع والبهتان .
شتان بين من تحفر في موضع الماء لتستخرج بدن يوسف الصديق لينير للحيارى والتائهين الطريق.. وبين الذين ارتضوا الذلة والهوان والعمى والخذلان في ظل غباء وتخبط وفشل حكم فرعون أو العزيز .
هذا الحديث الرائع يناسب روعة ما شاهدته من عزم وثبات وتضحيات نساء وفتيات مصر فى ميدان رابعة العدوية .. الحديث رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الحاكم .. وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.. وأزال رحمه الله الاستشكال بين معارضة ظاهر هذا الحديث وحديث " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " .
عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
" أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) أعرابياً فأكرمه .. فقال له : ائتنا.. فأتاه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): سل حاجتك
فقال: ناقة نركبها.. وأعنز يحلبها أهلي .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ):
" أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل ؟!
قالوا: يا رسول الله.. وما عجوز بني إسرائيل ؟
قال: إن موسى عليه السلام لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا ؟ فقال علماؤهم : إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا !
قال: فمن يعلم موضع قبره ؟.. قالوا: عجوز من بني إسرائيل .
فبعث إليها فأتته .. فقال: دليني على قبر يوسف.. قالت: حتى تعطيني حكمي !
قال: وما حكمك؟
قالت: أكون معك في الجنة.. فكره أن يعطيها ذلك .
فأوحى الله إليه: أعطها حكمها .
فانطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء .
فقالت: أنضبوا هذا الماء.. فأنضبوه .
فقالت: احتفروا .. فاحتفروا فاستخرجوا عظام يوسف.. فلما أقلوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار " .
يا نساءنا وفتياتنا العظام فى رابعة العدوية ، سلاماً وتحية .
يا من استخرجتم عدلَ يوسف الصديق وأمانته وشرفه وكبرياءه من باطن أرض مصر .. فإذا الطرق أمامنا مثل ضوء النهار .
فهل عجزتم يا رجال مصر من القاعدين ترسفون فى قيود العجز والتبعية .. أن تكونوا مثل عجوز من عجائز رابعة العدوية ؟