في مقال له عن العملاء ، تحدث الدكتور عبد العزيز الرنتيسي ، عن حرص أجهزة أمن السلطة الفلسطينية على الترويج لفكرة وجود عملاء للمخابرات الصهيونية في القيادة العليا لكتائب القسام كانوا السبب ، بحسب تلك الأجهزة ، في اغتيال الشهيد صلاح شحادة ، وكذلك محاولة اغتيال القائد القسامي محمد ضيف التي استشهد فيها اثنان من مساعديه ... كما ظهر جلياً في تصريحات اللواء الهندي ، وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده الأمن الوقائي في القطاع وتحدث فيه العميل المتهم برصد الشهيد صلاح شحادة .... إضافة إلى تسريب بعض الجهات لتقارير إلى صحف محلية وعربية للغاية نفسها .
وللحقيقة فإنها ليست المرة الأولى التي تسعى فيها أجهزة أمن السلطة إلى ترويج مثل هذه الافتراءات ، بل إننا لا نعدو الحقيقة والواقع إذا أكدنا أن تلك الممارسات هي استمرار لسلوك وسياسة منهجيين تجاه حماس وذراعها العسكري من قبل أجهزة السلطة .
فبعد عمليات الثأر ليحيى عياش قامت أجهزة السلطة بحملة اعتقالات واسعة ضد الإسلاميين ، رافقها حملة إعلامية زعمت خلالها أن قيادة حماس "العميلة لحزب الليكود !؟ " ، قد هدفت من وراء تلك العمليات إلى إسقاط حمامة السلام شمعون بيرس والإتيان بنتانياهو بدلاً منه ... وقامت أجهزة السلطة بممارسة ضغوط شديدة على بعض معتقلي حماس ليقدموا إفادات بذلك عبر وسائل الإعلام المحلية .
وبعد تصفية الشهيد محيي الدين الشريف ومحاولة إلصاق التهمة ببعض رفاقه ، وما تلا ذلك من مسرحية هروب القسامي عماد عوض الله من سجن السلطة في أريحا ثم تصفيته مع أخيه الشهيد عادل في الخليل على أيدي الصهاينة ، طلبت أجهزة أمن السلطة عدداً من الإسلاميين لإجراء مقابلات معهم ، وكان منهم كاتب هذه السطور ،وقد حرص ضباط أمن السلطة على إقناع المطلوبين بوجود اختراقات كبيرة في قيادة حماس والقسام أدت إلى " خسارة هؤلاء الأبطال " على حد تعبيرهم ..وأن من الواجب التعاون- بين حماس والسلطة - لتحديد مواطن الخلل!! .. وقد رد أحد الإسلاميين على ضابط المخابرات الذي يحاوره بالقول : " إن العجيب ليس حدوث اختراق في حركة حماس التي تستهدفها المخابرات الصهيونية والفلسطينية والأمريكية ، وبعض الأجهزة الأمنية العربية والأجنبية منذ شرم الشيخ .. ولكن العجيب هو بقاء هذه الحركة بالرغم من ذلك الاستهداف .. والأعجب هو تحقيقها لاختراقات ناجحة وعمليات قوية في العمق الصهيوني "، وتابع قائلاً : " إن حماس لاتبحث عن العملاء لتنظمهم في صفوفها ، ولا تبقيهم إذا اكتشفتهم ، فوق أنها تحرص على استبعادهم وتنقية الصف منهم .. ولكن ألا ترى معي أن الاختراق الحقيقي ليس ما تتحدثون عنه وإنما التنسيق الأمني الذي تقوم به أجهزة السلطة مع الصهاينة .. لقد كان الأولى بكم قبل أن تشيروا إلى القشة التي في عين حماس أن تخلعوا العود بل الجذع الذي في عيونكم ، ومن كان بيته من زجاج عليه ألا يرمي الناس بالحجارة.. ثم ألا توافقني بأن السلطة وهي تلقي باللائمة على اختراقات في صفوف حماس إنما تسعى إلى صرف الأنظار عن دور أجهزتها الأمنية في تصفية الشريف والأخوين عوض الله ؟؟ ".. وهنا لم يجد ضابط المخابرات ما يرد به سوى القول :" نعم هناك من يتهم العقيد الرجوب والأمن الوقائي بأن لهم ضلعاً في تلك التصفيات "،وقد كان هذا مخرجا مريحا لضابط المخابرات ذاك حيث ألقى بالتهمة على الجهاز المنافس " العدو " بينما سلم هو وجهازه من التهمة .. فضلاً عن أن أصابع الاتهام كانت تتجه في الواقع إلى الأمن الوقائي لقرائن عدة .
إن الملاحقات والاعتقالات والتحقيقات والمسالخ التي قامت بها أجهزة السلطة ضد المناضلين عموماً ومجاهدي القسام على وجه الخصوص ، تمثل أشد الصفحات اسوداداً في تاريخها .. ولعل الباعث النفسي وراء ذلك أن المجاهدين يحرجونها باستشهادهم كما يحرجونها بعملياتهم ... فعمليات المجاهدين تحرجها مع الصهاينة والأمريكان ، كما تحرجها وتحط من شأنها لدى الشارع الفلسطيني الذي يجري مقارنته بين حملة البنادق ومفاوضي الفنادق ...بينهم وبين الشرفاء المناضلين الذين يشكلون المرآة الناصعة التي تكشف قذى عيونهم ..ولكنهم بدلاً من غسل وجوههم القبيحة يعمدون إلى كسر المرآة..
وحين يستشهد المجاهدون تتجه أصابع الاتهام إلى أجهزة السلطة لعجزها وتخاذلها عن حمايتهم أو لدورها وتواطئها في تصفيتهم مما يبرز بشكل جلي التنسيق الأمني والمهام القذرة التي يضطلعون بها .
ولقد كان لافتاً للنظر أنه بعد أسابيع قليلة من بدء انتفاضة الأقصى الجارية ، انتشرت في الشارع الفلسطيني شائعة قوية أن عقيد الموساد الذي اختطفه حزب الله قد اعترف عن علاقاته بالعشرات أو المئات من قيادات السلطة وأجهزتها وعقدائها كعملاء للاحتلال ... وأكدت الشائعة أن حزب الله سيعلن أسماءهم على لسان أمينه العام في محطة المنار ، أو على موقع الحزب على الإنترنت ، وقد استمرت هذه الشائعة أكثر من شهر في غالبية المناطق الفلسطينية ، ولم تشغل أي إشاعة غيرها طيلة عامي الانتفاضة ما احتلته هذه من حيث المساحة الزمانية أو المكانية .. وقد كان الفلسطينيون يضربون الموعد تلو الموعد لإعلان حزب الله لتلك القائمة المزعومة .. وعبثاً كانت محاولات إقناع الجماهير بأنها شائعة .. وقد كتبتُ في ذلك الوقت محللاً الأبعاد النفسية والاجتماعية لها في صحيفة أخبار الخليل .
النكتة غير الطريفة هي محاولة أجهزة السلطة الظهور بمظهر الحريص على تنقية صفوف حماس من العملاء الذين يخترقونها !!، فيما " تصر " حماس على إيصاد الأبواب أمام تلك المساعي الحميدة والنوايا الطيبة!! كما لو كانت حريصة على إبقاء العملاء ينخرونها ؟

أما الطريف حقاً في الموضوع فهو أن تلك القصة برمتها إنما هي نسخة طبق الأصل عن قصة قديمة يتداولها الشارع الفلسطيني منذ سنوات ، والتغيير الوحيد هو فقط في الأسماء... والقصة الأصلية هي أنه عندما كان البعض ينبه القيادة الفلسطينية ، وهي في الشتات ، إلى وجود بعض العملاء المحيطين بها لأجل الحذر منهم وإبعادهم ومعاقبتهم، كان يأتيهم الجواب : "إحنا عايزين جزم علشان نقطع بيهم المخاضة "،أو يقال لهم : " إننا قد نحتاج إلى هؤلاء العملاء إذا أردنا بعث رسائل للإسرائيليين " .
إن أجهزة أمن السلطة حريصون فعلاً على أن تكشف لهم حماس كل أوراقها وتفتح لهم مغاليق جهازها العسكري ... ليس لأجل " تنظيفه " من العملاء ، ولكن لتكمل ما قامت به خلال السنوات الفائتة من تفكيك لخلاياها العسكرية ، ومصادرة لأسلحتها ، وجعل مجاهديها بين سجين وطريد وقتيل ... إذ لا يزال عدد من المسئولين الفلسطينيين يصرحون بين الفينة والأخرى بأنهم أحبطوا عددا من العمليات الفدائية ، واعتقلوا مدبريها ، وإذا ما اتهمهم الصهاينة أو الأمريكان بالتقصير في مقاومة الإرهاب ، فإنهم يردون على ذلك بالقول : " كيف تريدون منا مقاومة الإرهاب والقيام بواجباتنا ونحن محاصرون ومقراتنا مدمرة ولا نستطيع التحرك ؟؟ أطلقوا أيدينا أولاً ثم حاسبونا " ... واضح أن أجهزة السلطة لم تتب ولا تنوي التوبة ، بل هي مصرة على طريقها، فهل من الحكمة والحالة هذه أن تشرع حماس أبوابها لمن لا يألوها خبالاً؟؟ وهل يمكن لتلك الحملات الإعلامية أن تستخف حركة في وزن حماس فتقع في الفخ وتحقق تمنيات البعض؟.
إن تحقيق اختراقات فيما بين الجهات المتصارعة والأعداء أمر ممكن ومعروف .. وتاريخ العلاقات الأمريكية السوفيتية شاهد على نجاح كل طرف في اختراق مؤسسات وأجهزة الطرف الآخر ...وإنما المهم أن تلاحق تلك الاختراقات بالإجراءات الوقائية والعلاجية المناسبة ... وفي حالتنا الفلسطينية فإن الاختراق الأكبر هو ذاك الذي بلغ نخاع المنظمة وصار يوجه دماغها .. فغيّر استراتيجيتها، وبدّل تصوراتها، وأصابها بعمى الألوان، فقلب لها جبهة الأصدقاء والأعداء .. وحوّلها من حركة تحرر إلى مجموعة وظيفية لا تختلف الأنظمة في المنطقة .