جَدير بالحركة الاسلامية اليوم تأمل هذه الفلسفة والحكمة العميقة ، وهم أولى الناس بتتبع حكمة أبناء الرسول عليه الصلاة والسلام .
لا شك أن رأى الناس واجب النفاذ ان أجمعوا عليه بطريقة أو بأخرى فتلك هى ارادة الأمة ، لكن اذا تعارض هذا مع حياة الناس وتسبب فى العصف بوجودهم وأرواحهم والمغامرة بدمائهم ؛ فهنا الحكمة تقتضى تأخير رأيهم وتقديم حياتهم وحقن دمائهم .
وقد تحرك معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه بجيشه من الشام قاصداً الكوفة ، عندما علم باستشهاد الامام على بن أبى طالب واستخلاف ابنه الحسن واجماع الناس عليه ، وكان الحسنُ رضى الله عنه قد خرج على رأس جيشه للقائه وصده .
واذ هم فى طريقهم الى المدائن ، نهضَ بين صفوف جيشه وقال : " انى قد أصبحتُ لا أحملُ لمسلم ضغينة ، وانى ناظر اليكم نظرى الى نفسى ، وقد رأيتُ رأياً فلا تردوا على رأيى ؛ ان الذى تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة " .
بالطبع تلك الحكمة سيرفضها الكثيرون ممن يفضلون السير فى طريق الصراع حتى نهاية النزف وازهاق ملايين الأرواح دون بلوغ نهاية الطريق .
وهذا ما نراه واقعاً اليوم فى القضية المصرية التى لا " حَسَنَ " لها يفرض الحكمة ويوطد العزم على تقديم حقن الدماء ، ويُفيق الجموعَ على حقيقة لا يتبينون ملامحها جيداً فى خضم الغضب والحماسة الملتهبة والرغبة فى التقدم والثأر والانتصار .
ومعاوية من جانبه يتوق كالغريق الى زورق النجاة ، فيبلغ الحسنُ شروطَ الصلح لمبعوثيه بما يؤسس لحياة خالية من الضغائن والأحقاد ومستقبل طارد للاستبداد .
وقبلَ معاوية ، وحقن الحسنُ الدماء " ان الله هداكم بأولنا – يقصد الرسول - وحقن دماءكم بآخرنا " ، ومضى الى المدينة قريرَ العين مُردداً كلماته المُضيئة " لقد كانت جماجمُ العرب بيدى فى العراق ، تسالمُ من سالمتُ وتحاربُ من حاربت ، ثم تركتها ابتغاء وجه الله " .
لكن ما العائد هنا ؟ وما الحكمة ؟ وأين الفلسفة ؟ وهل الغاية حقن الدماء وفقط ؟
لا .. ليست هنا فقط تكمن حكمة هذا الفعل الرشيد الذى ضحى برأى الأغلبية وبشرعية الحاكم الفعلى مقابل أرواح الملايين ، انما الغرض البعيد والأهم هو جلاء الحقائق واتضاح موقع من ضحى فى قلوب العامة بعيداً عن المناصب وموقع السلطة حيث يسهل استهدافهم والعصف بمكانتهم بالتشويه والتضليل .
الحركة الاسلامية فى حاجة اليوم الى العودة الى الجماهير لتهفو اليهم الأرواح من جديد وليستعيدوا البريق وليحافظوا على مقدساتهم ومساجدهم وليستعيدوا مكانتهم ، وفق فلسفة أبناء الرسول هذه .
فلم يكدْ تنزاحُ عن الناس فى شتى الأقطار غمرات ما كانوا فيه من صراع وخلاف ، حتى راحتْ أرواحهم تهفو نحو المدينة وخواطرهم تطوف من قريب وبعيد حولَ ريحانتى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومع مرور الأيام كان تطلع المسلمين الى المدينة بما فيها من هدى ونور ، يفوق تطلعهم الى دمشق معاوية وما فيها من دنيا واغراء .
وراحتْ الوفود تشد الرحال الى المدينة لتلقى ابنى الرسول صلى الله عليه وسلم وأحب الناس اليه ، وليرتشفوا الحكمة من فيهما ، بل أخذ الشاكون من ظلم ولاة معاوية رضى الله عنه واستهتارهم يُغذون السير الى المدينة ، حاملين شكواهم الى الحسن والحسين ، فيدعوان الناس للصبر ويرسلان لمعاوية بالنصح .
هكذا .. فالحركة الاسلامية اليوم بحاجة الى العودة الى الجماهير ليعود الناس اليهم بعد تلك الموجات العاتية من الكراهية والاحتقار والحرب المُمنهجة فى خضم صراع السلطة .


هشام النجار