الشيخ الغزالى رحمه الله محطة فارقة على الطريق الى مراجعات الاخوان ، الا أنهم لم يُحسنوا التوقف عندها والتزود منها ، شأنه شأن محطات أخرى هامة كالبهى الخولى والباقورى وعبد العزيز كامل .. الخ ، وكان رحمه الله قد تركَ الجماعة بعد خلاف مع المستشار الهضيبى اعتراضاً على كيفية ادارة الصراع مع عبد الناصر والثورة ، احتل اثره الغزالى المركز العام بمشاركة الشيخ سيد سابق وقادا ثورة ضد المرشد مما أدى الى فصلهما بعد ذلك من الجماعة .
المشهد الأخير وجملة الندم التى نقلها الغزالى عن البنا قبيل اغتياله ، ثم تعقيب الغزالى على المشهد وتفسيره له بأن الفجوة عميقة جداً بين الاسلاميين وقطاعات الشعب ؛ كان كفيلاً بالعودة عن الخط الذى وصلَ بالجماعة اليه فى نهاية حياته والذى عبرَ عنه ذات خطبة قائلاً " فستخاصمون هؤلاء جميعاً فى الحكم وخارجه خصومة شديدة " ، حتى لا يتكرر حصارُ الجماعة ومرشدها بهذا الشكل مرة ثانية ويتهدد كيانها .
كان من الضرورى التوقف عند محطة الشيخ الغزالى قبل السير فى طريق الشيخ البنا الى نهايته وتكرار المأساة فى صراع التغيير من أعلى وابدال الحكومة القائمة بحكومة اسلامية ، والتغيير الايجابى طويل المدى هو ما لا يصبرُ عليه القادة والأتباع معاً ؛ ولا يظنن أحد أن الفجوة هائلة بين الاسلاميين والناس من غير مؤيديهم ، بل ومن مؤيديهم أيضاً ، وفى التجمعات والاعتصامات عوام وخلق كثيرون عاجزون عن فهم أبعاد القضايا وقد جذبهم شعار عام أعجبهم بريقه دون القدرة على مناقشة تفصيلاته واشكالياته ، والرغبة فى الحشد تمرر كل هذه الخطايا ، ولذلك بقى هذا الغموض - الذى تحدث عنه المستشار البشرى - من عهد الشيخ البنا الى اليوم ؛ لأن هناك خطر عندما يفهم العوام كل شئ .
بل ان المصيبة عندما يُسهم الاخوان فى تعطيل الطاقات الجماهيرية بالجدل الجماعى فيما يُحسنون وما لا يُحسنون ، حتى شاهدنا على منصة رابعة فئات من المجتمع – مع احترامنا للجميع – يتحدثون فى قضايا لا يُحسنها ويتقنها الا عالم قدير أو مفكر حاذق أو سياسى محنك ؛ أو دبلوماسى مخضرم ، أو أكاديمى عريق ، وفيمَ يعتبر الشيخ البنا الوصول الى مثل هذه المرحلة انتقالاً من السلبية الى الايجابية ، يراها الغزالى هَذراً بعيداً عن نصوص الاسلام ؛ عندما يتصدى عوام المسلمين الذين قد لا يُحسن أحدهم – اذا أخذنا نموذجاً من النماذج - كسبَ قروش يقتات بها ، ويصعد ليتحدث فى القضايا الجسيمة فى كل المجالات ، من الحاكمية الى أسرار الجيش الى العلاقات الدولية الى قضايا الأمن القومى .
هنا نضعُ أيدينا على خيط هام يقى الحركة الاسلامية الوقوع فى فخ الانهيار الجماهيرى والفجوات الهائلة التى لا يتضح حجم عمقها الا فى ذروة الصراع سواء من الخصوم أو الأتباع ، بضرورة الوعى بأهمية السعى لتجنيد الناس على اختلاف مواهبهم وميولهم لخدمة الدولة ونفع المجتمع ووضع التفكير الاسلامى فى المَسار الأصوب حيث العمل الايجابى المنتج والمثمر .
ما أحوج الانسان والجماعات والأحزاب خلال سيرهم الى محطات يقفون فيها بين الحين والآخر ، ليُعيدوا ترتيب أولوياتهم ، وليمعنوا النظر فى جوانب أنفسهم ، فيتمموا النقص ويجبروا القصور .
ومحطة الشيخ الغزالى أراها من المحطات الهامة على طريق مراجعات الاخوان المسلمين والحركة الاسلامية بصفة عامة ، وقد وضعَ فى خطبه البليغة ومحاضراته الراقية وكتبه النافعة – وترجمَ ذلك فى مواقفه واختياراته السياسية - اجابات سديدة ومقنعة على هذا السؤال الذى صرخ به بعدَ معانقته البنا قبيل اغتياله وسماعه لومه لنفسه .
لا تنظر اليوم ولا تستمع فقط الى العوام ممن يعارضون الاخوان ويكرهونهم ، انما أيضاً الى كثير من المؤيدين ، ستخلص بلا شك الى الحقيقة التى أقرها الغزالى رحمه الله قبل سنين أن السواد الأعظم يحتاج كل الاحتياج الى احياء تربوى طويل ، وأن المعركة قبلَ ذلك قليلة الغناء .