لم يحسم الاخوان المسلمون أمرَهم بشأن علاقتهم بالسلطة والمؤسسة العسكرية وميراث يوليو 52م ، ولم تتحدد ملامحُ مشروعهم وأولوياتهم وأهداف تحركهم على الساحة ، فضلاً عن أنه لم تُسجل مواقف مقنعة دالة على أنهم بارعون فى فن السياسة الذى زعموا طويلاً أنهم راسخون فيه ، وقد حدثتْ مآسى كثيرة منذ عهد عبد الناصر الذى تلاعب بهم وبغيرهم بمكر ودهاء شديدين ، الى اليوم بما يترك انطباعاً بأنهم صغار فى هذا الفن ، ودائماً ما يقعون ضحية سوء تقديراتهم لقدرات خصومهم ومؤامراتهم وعدم احتياطهم لثأر المهزومين لأنفسهم ، اذا حدث مرة وتقدموا خطوة فى احدى جولات الصراع .
أليس مما يثيرُ الدهشة أن يكون عامُ الحكم الأول للاخوان مفتوحاً على مصراعيه لمن هب ودب ليمارس هواياته فى الفتك والتشنيع والتمسخر والحرق والتطاول ، وكأن كرسى الحكم كان مصيدة لاهانة الاسلاميين وفضحهم والتلاعب بهم على أعين العالم ، وكيف ينجح العلمانيون فى بسط سيطرتهم وفرض احترامهم لعقود ويفشل الاسلاميون فى عام ؟
هناك خلل فى التعامل مع الواقع وتكوين الأحلاف والقدرة على اتقان فنون المناورة والحكمة السياسية ، واحتراف الحيلة – كما أسماها الشيخ الغزالى – والمكر والخداع المشروع فى دنيا السياسة ، من أجل الوصول للهدف وتحقيق نصر سياسى مؤزر وواضح وممتد .
عبد الناصر كان حريصاً على انجاح الثورة ، وكان يدرك أن الاخوان بمفردهم لن ينجحوا ، وأنه اذا أعطى لهم كل ما يريدون من السلطة فسيكون الفشل حليفهم وسيتم اسقاطهم سريعاً بالنظر الى التحديات الدولية والغليان داخل الجيش ، ومع هذا حرص على مهادنتهم وقدم نفسه شريكاً ، بحيث اذا تم استثماره تدريجياً – بالنظر لهواه وماضيه التنظيمى – لحققتْ الشراكة انجازات كبرى للهوية والشريعة والوطن ، تفوق ما نجحَ فيه العلمانيون عندما تفوقوا فى المناورة وأتقنوا لعبة التعاون والتحالف مع السلطة .
علمنا وعلموا بالتجربة مغبة طموحات الحكم دون برامج محددة واضحة وامكانيات وقدرات بشرية ودون قوة تحمى ودون رموز سياسية مشرفة ، تلعب فى الساحة بأدواتها ولديها القدرة على الخداع التكتيكى والاستراتيجى والتعامل مع الخصوم والأعداء والمواقف والهيئات بما يناسبها ، بل كيف أن كرسى الحكم ذاته يصبح مصيدة من المنافسين السياسيين للايقاع بهم والعصف بجماهيريتهم .
وللاخوان تجارب سابقة لم يدرسوها جيداً ولم يستفيدوا منها وتجربة الخمسينات والستينات ثرية بالدروس ، وأهمها على الاطلاق ضرورة الخروج من صراع ما – خاصة اذا كان مع حكومة عسكرية عاتية تملك القوات المسلحة والشرطة ولا تبالى بما تريق من دماء فى سبيل بقائها – بالقدر الأكبر من المكاسب ، مع الحذر الشديد وتجنب الفخ والمصيدة الأخرى للاسلاميين – حيث صارَ لهم مصيدتان – وهى الزج فى السجون والمعتقلات .
أعتبرها مسبة وعاراً أن يحافظ التيار العلمانى بتنوعاته - رغم تواضع امكانياته البشرية - على قوته ورموزه فى مناخ الحرية بذكاء شديد ، وفى المقابل ينجح هذا التيار بالتعاون مع الدولة المركزية فى اذلال واهانة وانهاك الحركة الاسلامية فى المعتقلات على مدى عقود ، ليصبحَ الاسلاميون مرتبطين بالمحن والسجون ، فى حالة يراها البعض ضريبة وتمحيص وابتلاء ضرورى ، وأراه من زاوية أخرى مصيدة يقعُ فيها البعض بغباء شديد ، لتصاب الرسالة فى أعز غاياتها وهى حريتها .
يدخل الاسلاميون وحماة الرسالة وحملة الدعوة السجون ، فيفرح ويرتع الملحدون والشيوعيون والمنحرفون أخلاقياً ويعيثون فى الأرض افساداً .
انهم يتحينون هذه الفرصة لينطلقوا فى الاختلاس والتزوير والعبث بمقدرات وهوية الأمة وتقاليدها وأخلاقها وثوابتها فى طمأنينة ودون مؤاخذة .
ينجح العلمانيون واليساريون الناصريون مرة أخرى على حساب تواضع مستوى الاخوان المسلمين فى فن المناورة السياسية ، والنتيجة واضحة تماماً أمام أعيننا ؛ حيث تُساق العقول الاسلامية الكبيرة للقيود وراء القضبان ، ليتحكم فى المشهد السياسى والتشريعى من يطفح بسوئه على الأمة لكى ترضى الرذيلة شريعة واتباع الأجانب ديناً !