المسلمون فتحوا العالم بالدين والعلم معاً ، ونهضتْ أوطانهم بالتحالف بين الأمراء والعلماء ، وعندما يصل أهلُ الدين بذكائهم الى قلوب أولى الأمر وعقولهم الى التكامل المنشود بين الدعوة والدولة ، فحدث ساعتها ولا حرج عن حجم الغيظ فى قلوب الأعداء بسبب ازدهار المسلمين ورفاهيتهم وقوتهم .
تاريخ مُبهج ليس فقط فى مصر والشام والحجاز انما حتى فى الهند عندما كان السلاطين الغزنويون ثم الغوريون ينهضون بالبلاد ، بينما كان العلماء والمُربون والدعاة المتحالفون معهم يفتحون العقول والقلوب بالحكمة والموعظة الحسنة .
فى يناير 1950م أجريت آخر انتخابات برلمانية فى العهد الملكى واكتسحها الوفد بنسبة 87 % مما أثار فزع عدوه اللدود الملك فاروق ، الذى اضطر بعد استشارة مجلس بلاطه لاعادة الاخوان الى الساحة لاحداث التوازن مع الوفد ، ولكى يضمنوا ولاءَ الاخوان اختاروا مرشداً جديداً يدين للقصر ، فكان المستشار حسن الهضيبى الذى روج له الشيخ الباقورى بأنه رجل المرحلة لعقد المصالحة بين الاخوان والحكومة وانهاء معاناة المعتقلين ومحو سُبة الجماعة الارهابية عن الاخوان بوصفه رجل قضاء وقانون ، وطى صفحة النزاع وبداية عهد جديد .
اجتهد الملك أثناء المقابلة التى جمعته بالهضيبى فى أن يكسب الاخوان لصفه ويقيم معهم تحالفاً استراتيجياً لخدمة الاسلام من جهة ، ولتحقيق أهدافه السياسية من جهة أخرى .
يؤكد التلمسانى فى ذكرياته أن الملك الذى أكد فى المقابلة أنه مسلم يحب الاسلام ويحب له الخير ، سعى لمشاركة الاخوان لانقاذ الوطن مما كان ينحدر اليه وأن المرشد استعلى عليه ! ويؤكد محمود جامع أن " الملك عرض على الهضيبى العمل معاً لخدمة الاسلام فى مواجهة السعديين ، والحقيقة أن الهضيبى لم يقبل من الملك شيئاً لأنه كان يراه ضعيفاً لا يستحق أن يقف الى جواره ، وكان ينتظر أو يجهز لاسقاطه " ، واعترف الهضيبى لمؤرخ الاخوان محمود عبد الحليم أنه عامل الملك باستخفاف وظل واضعاً ساقاً على ساق صامتاً وتركه يسأل ويتكلم .
كانت فرصة كبيرة لتحالف الدولة والدعوة ضيعها الاخوان ، وفيمَ أكد الملك أن الانجليز راحلون وأن الخطر فى الشيوعية وأنه يسعى لحقن الدماء وانهاء الثارات ، قابلَ المرشد عروضه باحتقار ، وفى حين وصل الاسلاميون فى تركيا الى ما وصلوا اليه وفى خلفيتهم صورة خصمهم أتاتورك ، يحكى محمود جامع كيف أجابَ المرشد على الملك فاروق ؛ فبعد المقابلة بيوم واحد " حضرَ المركز العام للاخوان المسلمين كريم ثابت باشا ومعه صورة فاخرة للملك فاروق فى اطار فاخر مهداة الى ( صاحب العزة حسن اسماعيل الهضيبى بك ) المرشد العام للاخوان المسلمين ، وموقعة بتوقيع الملك فاروق ، وقدمها كريم ثابت الى المرشد العام طالباً تعليقها فى مكتبه ، وبعد خروجه رفض الهضيبى تعليقها ، وكانت ملقاة فى غرفة الحمام فى منزله ، وقال الهضيبى : ( هذا هو مكانها الطبيعى ) !
ذاك هو الملك الذى أعطاه الشيخ حسن البنا بيعة الاخوان ، وأشادَ بوطنيته فى رسالة اليه فى أكتوبر 1946م نقلها صاحب كتاب ( أحداث صنعت التاريخ ) ، وهو الذى حرصَ البنا على مقابلته بأية وسيلة ولو فى السر بعد قرار حل الجماعة ، فضلاً عن كونه صاحب الفضل فى وصول الهضيبى رغماً عن ارادة التنظيم الخاص الى منصب المرشد .
الاخوان على طول تاريخهم اختاروا المفاصلة مع الدولة والحكام بتعبير سيد قطب ناصحاً المرشد عام 54م بالتخلص من حركة الجيش " نقضى عليها قبل أن تقضى علينا " ، ولو كانت هناك مراجعة لأخطاء الماضى لنحى الاسلاميون خيار المفاصلة جانباً اليوم .
المشكلة ليست فى هذا المرشد أو ذاك ، كما شرع البهى الخولى فى جمع توقيعات الهيئة التأسيسية لخلع الهضيبى محملاً اياه مسئولية ما وصل اليه الاخوان من نكبات ، لكنها فى المنهج الذى ترسخ فى وجدان الاخوان منذ الأربعينات – كما يؤكد أحمد رائف – بطرح أنفسهم كبديل للسلطة القائمة بسلوك ثورى وانقلابى ، أما خدمة الاسلام والوطن من خلال فلسفة التحالف والتعاون بين الدعوة والدولة ، فتلك خطة لم تتبناها الحركة الاسلامية المعاصرة بعد .