خلال هذه المَسيرة وحدها نستطيع الحصول على دعائم تؤسس لبناء منسجم يضم الناصريين والقوميين والاسلاميين والثوريين معاً .
الباقورى لم ينعزل عن الفكرة الاسلامية بل ظل وفياً لها طوال حياته ، بل ظلَ وفياً للاخوان ومنهج الشيخ البنا ، بل انه ما قبلَ الوزارة الا انطلاقاً من تعاليم البنا الذى رأى أن الثورة هى الطريق الثالث للتغيير بعدَ العُرف والطرق الدستورية ، وحينما تأتى فرصة حيازة القوة التنفيذية فلابد من اقتناصها ؛ فهى الى جانب قوة القرآن فى الوجدان أقوى ما يمكن أن يعتمد عليه المُصلح لانهاض المجتمع ، لذا يقول الباقورى : " كنتُ حريصاً على أن أتقلدَ منصبَ الوزارة لا أمل فيها – لأن لها بريقاً يقيناً – لكننى لم أقصد الا أن أكون وفياً للدعوة التى نشأتُ فى أحضانها " .
وأثبتَ بالأداء العملى صدقَ مقصده ، واجتهدَ من خلال التعاون مع عبد الناصر فى تطبيق مبادئ البنا وتتبع مساراته فى التغيير ، فى حالة استثنائية فطِن لها هذا الثائر الأزهرى واحتضنها عبد الناصر الذى وجدَ ضالته هو الآخر فى ذلك الاخوانى المتفرد الذى يجمعُ بين حب البنا والولاء له وانصاف عبد الناصر وتقديره قدرَه .
بل اننى شاهدتُ – على سبيل التصور - البنا وعبد الناصر معاً يتعاونان وأنا أطالع مسيرة الباقورى فى وزارة الثورة فكأن البنا هو الذى يتكامل مع صديقه القديم ، ولو عاش لفعلَ ذلك رحمه الله ، وتذكرتُ ما قاله الشيخ القرضاوى فى أحد مقالاته فى " آفاق عربية " أنه لو كان البنا مكانَ الهضيبى فى الأزمة مع عبد الناصر لكان للاخوان فيها شأناً آخر .
الباقورى لم يمنعه وفاؤه لأهداف البنا من انصاف عبد الناصر ووضعه فى المكانة التى يستحقها ، فهو يراه " زعيماً بلا منازع " و قد أيقن منذ البداية أنه - بما أوتى من ذكاء ومواهب جسمانية وملكات الزعامة - " القائد الحقيقى والفعلى لثورة يوليو " .
الباقورى الذى كان يجوب مصر كلها بصحبة البنا داعياً الى الأخلاق الاسلامية ، فعلَ نفس الشئ ثائراً بصحبة عبد الناصر ورجال الثورة ، وكان منسجماً مع ماضيه وحاضره فى تجربة تكامل يستعصى على الكثيرين من الاخوان خوضها ، أعطى خلالها الثوار وأخذَ منهم وعلمهم وتعلمَ منهم : " أعطيتهم نتيجة تجاربى حين كنتُ داعية للاخوان ، وكنتُ أتقدمُ دائماً أمام المتحدثين من رجال الثورة ، وشعبنا عاطفى يؤمن بالدين ويعشقه ويأنس للمتحدثين به ، فكنتُ أخطب قبلَ أن يخطبَ جمال عبد الناصر فتلين القلوب ، فاذا جاء بعدَ ذلك عبد الناصر يخطب وجدَ الأرض ممهدة ، اننى أعطيتُ الثورة أعز وكل ما أملك من تجاربى وقدراتى ، وأخذتُ تجاربهم واتعظتُ بمواقفهم فتجنبتُ الأخطاء التى وقعوا فيها وتجنبوا هم الأخطاء التى وقعتُ فيها " .
تلك النزعة الايجابية والأداء المتطور كان لخدمة الثورة والدعاية لعبد الناصر ، وليثق الشعب " بأن هذه الثورة ليس كما يصورها بعض خصومها أن جمال عبد الناصر فى مصر هو كمال أتاتورك فى تركيا ، وسيفعل بالاسلام فى مصر كما فعلَ أتاتورك بالاسلام فى تركيا " ، وأيضاً كان لخدمة البنا وأهدافه ، وبتعبير الباقورى : لخدمة " الغاية العليا التى كان يتحراها قائد دعوة الاخوان وامامها الشيخ البنا " .
وأخوَنَ الشيخ الباقورى الوزارة على عين عبد الناصر فقلدَ الغزالى والبهى الخولى وسيد سابق أهم المناصب فيها ، ورفعَ الظلم عن الفلاحين وعن مستحقى الوقف وأحيا الدعوة فى المساجد وأعان عائلات الاخوان المسجونين من أموال الأوقاف ، وكان يجمعُ لهم الأموال من البلاد العربية خاصة سوريا .
ويتساءل وهو وزير فى حكومة عبد الناصر : " هل أستطيعُ أن أدعَ هذه الأسر وقد أوصانى بها الامام الشهيد حسن البنا قبلَ أن يموت ؟ "
هنا معضلة أساسية فى تاريخ الاخوان وفكرهم ومنهجهم لابد وأن تحل على ضوء تجربة الباقورى ؛ فهم لا يرون البنا ومتابعته الا بالمفاصلة والعداوة مع عبد الناصر حيث لا يجتمع حب هذا مع انصاف ذاك .
الباقورى حل عملياً مبكراً هذه الاشكالية ، ولذلك كان حرص الهضيبى على خلعه ليس فقط من الهيئة التأسيسية ومكتب الارشاد انما من جميع التشكيلات والأفرع ، حتى ينتزعَ منهجه التصالحى والتكاملى من البيئة الاخوانية ، لتحيا فلسفة " اما هو أو نحن " التى تسببتْ فى الكوارث التى نحياها اليوم .