يواجه تاريخنا العربي محاولة مدروسة دقيقة,لتزييفه وإفساده,وتمييع قيمه ومثله وهي محاولة لم نشهد أخطر من سمومها وطعناتها ودسائسها ..كل ذلك في عرضٍ روائي جذاب شيِّق,هدفه طرح أرضية تاريخية وفكرية واسعة لإثارة الشبهات حول تاريخنا وتراثنا وآدابنا ورجالاتنا,
سموم حقيقة قدمت إلى شباب جيلين في أمَّتنا العربية,عن طريق قصص تقوم على الحبكة الغرامية الخيالية
حملت عنوان (روايات تاريخ الإسلام)لجرجي زيدان.
وروجَّت دار الهلال لهذه الروايات الغرامية ,خلال أكثر من ثلاثة أرباع القرن,من موالاة نشرها وطبعها وإذاعتهافي مختلف أرجاء الوطن العربي.
وتروِّج لها اليوم أيضاً,دورنشر معينة في لبنان,حتى أقيمت دار نشرباسم(جرجي زيدان)صاحب الروايات ,أغلفتها أنيقة ,عليها صورغانيات جميلات بالألوان,تجتذب الجيل والناشئة بأسعارها الرمزية.
والغريب أن بعض الأدباء والكتاب ردَّدوا ادعاءات جرجي زيدان على تراثنا وتاريخنا كطه حسين ,وسلامة موسى,ولويس عوض,ولطفي السيد,ومحمود عزمي,وحسين فوزي.
والأغرب أنه لم يكتب عن هذه الروايات نقد شافٍ خلال ثلاثة أرباع القرن,فكأنهافي حراسة متينة, ورعاية أمينة,وكتبت دراستان عابرتان موجزتان عن كتاب جرجي زيدان (تاريخ التمدنالإسلامي),و(تاريخ آداب اللغة العربية) للشيخ شبلي النعماني (رئيس جمعية ندوة العلماء)في الهند.
والثانية انتقاد كتاب تاريخ آداب اللعة العربية,للشيخ أحمد عمرالاسكنري..وكتبت دراسة موجزة للأب لويس
شيخوعن تاريخ تاريخ آداب اللغة العربية,وعن كتاب طبقات الأمم .نشرت في مجلة الشرق.
وجرجي ..ظن أنه يكفيه من الاستعدادات لكتابه تاريخ الاسلام ,اقتباس أسلوب الغربيين فيه,ومراجعة
وترجمة كتبهم الجامعة لمادته,وبما يرفدونه من أفكار وآراء..مع أن التاريخ ليس قياساً ,فما لم يبت بالرواية,لاينفع مجرد القياس فيه,فأخطأ جرجي بالرأي,وأخطأ بالنقل والترجمة,علماً أن خطأ الرأي وحده فلدحكبير,فكيف بخطأ النقل والترجمة؟فهو أفدح وأمرّ ؟!وبخاصة إذا علمنا أن جرجي روائي قاص,وليس مؤرخاً.
لقد كتب جرجي مااعتقده,بعيداً عن البحث المنهجي في دراسة التاريخ ,أو مايسمى(مصطلح التاريخ)واعتمد على ماكان ذائعاً على ألسنة عامة الوراقين,أو الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها من غير تمحيص أو تدقيق أيضاً,بل أخذ بأقوال الخصوم ,وبالكتب الموضوعة لأخبار المجان,وبعجائب الأمور وغرائبها..ساعده على ذلك امكاناته الجيدة في اللغة العربيةواللغات الأجنبية,وسعة خياله؟!!
إن جرجي حرٌّ في إنشاء أية قصة عرامية,كقصته ((جهاد المحبين),ولكنه ليس حراً في تشويه تاريخنا,وتمييع قيمنا,التي تجمع قلوب الملايين وتجعلهم أخوة بعتزون بهدفٍ سامٍ, ويتخذون من أبطال ها التاريخ قدوة وأسوة ونبراسا.
كما أنهليس حراً بأن يجعل عنوان هذه الروايات الغرامية (روايات تاريخ الإسلام),وبخاصة أنه عندما يخطىء بها,يخطىء خطأ من يعلم ,لاخطأ من يجهل!!
إنَّ الأمم الحية تحافظ على تراثها ,وتبذلكل مافي وسعها لتحقيق هذا الهدف ,وهي في الوقت ذاته أمينة في حراستها..تقطع أيدي العابثين فيهفي محاولاتهم الأولى,لأن العبث في تراث الأمة,خطورة مدروسو لهدم ذاتيتها,وتحطيم طاقاتها ,وبالتالي ضياعها كأمة متينة البنيان, قوية الترابط,سبيمة الهدف.
إن الفرنسيين اليوم لايقدسون نابليون فقط,بل يقدسون الطريق التي سلكها في هروبه من جزيرة ألبا إلى باريس,عندما حقق حكم المئة يوم..وتراهم يرسلون السياح إليها,ويسيرون بخشوع , ماالأمر؟وما المناسبة؟يقولون :هذه طريق سار فيها نابليون.
وبريطانيا لاتقدس رجالاتها فقط,بل تقدس آثارهم فبيت لورنس في لندن مزار للسياح ولأهل لندن,ناهيك عن الرجالات الأعظم والأهم عندهم!!!
ونحن نرى ونسمع معول الهدم في تاريخنا وذاتيتنا ,وكأن الأمر لايهمنا ولايعنينا,فنتركه يعمل بحرية..علماً أن هذه الروايات أساءت أيضاً لسمعتنا في دول العالم عندما ترجمت إلى الفارسية والركية ’والهندستانية
والأذربيجانية,ولغات شرقيةأخرى ,وإلى معظم اللغات اللغات الأوربية..على أنها (تاريخ الإسلام )فكم أساءت ؟!؟
وإن الغاية التي توخاها جرجي هي تحقير الأمة العربية,وإبداء مساويها,وتمييع تاريخها وتفسيره جنسياً
فرويدياً,ولكنه لما كان يخاف ثورة الفتنة ,غير مجرى القول,ولبس الباطل بالحق,فما ترك سيئة إلاوعزاها للعرب,أمويين وعباسيين,وما خلى حسنةإلا وابتزها منهم,وكل ذنبهم أنهم عرب على صَرَافـَتِهم.
ولما كان كل قول في الرواية التاريخية محسوباً على المؤلف ولو أورده على لسان بطل من أبطال الرواية ,فياعرب اسمعوا نماذج من آراء جرجي:
-العرب البدو الحفاة
-(سأقيم معسكر الروم لعلِّي أشفي غليلي من العرب)
-أرى اللص ينقب بيتي فأتغافل عنه(أرمانوسة المصرية),واللص هنا هم العرب!؟!
-والعربي بمنزلة الكلب أطرح له كسرة وأضرب رأسه(عروس فرغانة)
-فهؤلاء العرب مازالوا من الخونة العاصين(المملوك الشارد)
ناهيك عن عبارات السلب والنهب وشراذم العصاة ,وسداهاالدسائس والاتهامات والشتائم؟ فالعروبة ليست شعاراً يرفع ,ولاكلمة تقال,إنها التزام بتراثها وبكرامتها ,ودفاع أمين عن عقيدتها ,وغية صادقة عليها,
والنخوة نحوها وبرد التشويه والدس عنها.
وجرجي -كمثال على سوء النيةالمقصود-يحرف حتى في نقل النص..لا..بل يتوخاه كما تريده محيلته,بما يخدم هدفه..قال جرجي:
*((في وصية عمر بن الخطاب حين احتضر,وأوصى ابنه بالشورى,قال:أنشدك الله ياعلي أن تحمل بني
هاشم على رقاب الناس)),وهذا دس وخطأ وتشويه ..وصوابه ((أن لاتحمل بني هاشم على رقاب الناس)).
*وقال :()أنشدك الله ياسعد أن تحمل أقاربك على الناس))
.وهذا أيضاً غلط,وصوابه :أن لاتحمل أقاربك على الناس).
بمثل هذه الأمانة التاريخية كتب جرجي زيدان تاريخنا ؟
هذه مقدمة كتاب جرجي زيدان في الميزان تأليف د0شوقي أبو خليل
إن استطعت سأنقل من الكتاب الشيء الكثير
مع تحيات
بنت البحر