أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: هنادي

  1. #1
    الصورة الرمزية سيد يوسف مرسي قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 179
    المواضيع : 61
    الردود : 179
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي هنادي

    تقف هنادي أمام المرآة كعادتها كل صباح كي ترى وجهها قبل أن تخرج لزبائنها ، تعودت أن لا يرها أحداً بوجه عبوس ، وهي تقدم له طبق الكشري بيدها ، اعتادت أن يراها زبائنها بوجه صبوح ضاحك ، منذ أن وطئت بقدماها الصنعه ومارستها عن قرب وهي ملتزمة بزيها ومظهرها العام غير متبرجة ..فقد صارت حديث الناس في الحارة والأماكن المجاورة وذاع صيتها وانتشر اسمها ( كشري هنادي ) وقد بات الناس يألفونها ويأتونها من كل فج ٍ عميق وأماكن بعيدة عنها ، يتناولون طبق الكشري من صنع يدها ، لذلك كان على هنادي أن لا تخرج إلا منهدمة ، لها بريق وضياء ، فتصافح بوجهها المرآة كل صباح قبل أن تصافح بوجهها الزبائن .. أخذتها اللحظة وركض بها الخيال واختطفها من حاضرها لتسافر عبر القطار ليرسو بها حيث كان الماضي وهي ترى صورتها وهي تركض خلف الحمار يحمل الروث على ظهره وجهها مغبرٌ ، حافية القدمين ، لتعزز الخصوبة بالأرض فتأتي بثمار وفيرة ، تجرى تحت أقدام الحمار مثل القطار فوق القضبان ، ولا أحد يألوها بالاً ،، جائعة كانت أو يكاد يقتلها الظمأ .. يقذفها الخيال فوق رصيف الماضي ويرجع بها للخلف ، وتطوف بها الذكريات .. فتذكرت حين كانت تود أن تخرج بعد أن كبرت واستدارت وبان على جسدها أثر أنثوتها والبلوغ ، فحجبت عن الأعين فلا يسمح لها بالخروج ولا يسمح لها برفع صوتها ، فتطلب الخروج أحياناً همساً من أمها وخفاء ، وهي تتضور وتتشفع لأمها كي تسمح لها بالخروج ، فإن أبدت أمها موافقة لها بالخروج لا تخرج إلا وهي معها ، مغماه ملفوفة إلا من عيناها اللتان تبصران بهما يبرقان تحت نقابها حتى تكاد لا ترى الطريق ، فلا يرى منها إلا جبهتها من وجهها و قدميها في نعليها ...يوم أسود لو قابلها أحد من الجيران في الطريق وتعرف عليها ، تظل ترتعش ويكسوها الخوف خشية أن يخبر أخويها أو أحداً من أهلها أنه رآها ، فيكون ذلك بمثابة الطامة الكبرى ونهايتها ، أو على الأقل علقة ساخنة تنالها من أخيها الأكبر عبد العزيز .. كانت نهاية فرحتها وقمة سعادتها هو خروجها إذا سُمحَ لها بالخروج ، وتظل تشكو لأمها الضيق حتى تسمح لها بالخروج خُفية بعيد اً عن أخوتها ، فتصحبها معها حتى القنطرة التي تقع خارج العمران لتشم بعضاً من الهواء وتنفس بعضاً من الضيق دون أن يعلم اخوتها وأبيها بذلك .. لقد كانت هنادي أشبه بسجينة في بيت أبيها ولا تستطيع أن تخالف أمرهم أو تكسر العرف السائد في بلدتهم وعند أهلها فعقاب ذلك عند الأهل شديد وقد يؤدي إلى قتل الفتاه أو المرأة المخالفة وتعتبر في عرفهم السائد نشوز لها ...
    أما الآن فقد أصبحت حرة طليقة وقد تحررت من الكثير من هذه القيود لتخرج ، وتدخل ، ، وتصافح الرجال ، وتبتسم ، وتضحك ، وتضع المساحيق على وجهها، وتكحل عينيها ،، لقد دفعت هنادي الكثير مقابل حريتها وسعادتها وتحملت الكثير ولم ترضخ لمواطئه العرف رقبتها طول حياتها ،كانت تواقة للحرية عاشقة لها . فحين تقدم لها الحاج مدكور والذي كان يكبرها بأربعين سنة ، لم تعارض الارتباط به ، إلا إنها تود أن ترى الوجود ويراها ، وقد علمت أن الحاج مدكور على قدر من الثراء ، لا يحتاج إلا لمن يرعاه بعد أن فارقه أولاده وماتت زوجته ،وقد اتخذ من القاهرة موطناً وسكناً ، كانت هنادي تتطلع دائما للحرية لتخرج من القمقم المسجونة فيه ، وقد حانت لها الفرصة واتخذت قرارها بالموافقة لتعيش مع الحاج مدكور ، بعدما رأت في عيون إخوتها وأبيها الرضا به ، فعزّت هنادي بما تبقى من حياتها وشبابها ، ولم ّ لا ... فقد تجد عند الحاج مدكور متسعاً وبراحاً لم تره في بيت أهلها ، وقد شاء القدر أن لا تطول حياتها مع الحاج مدكور ... فقد ألم به المرض واعتلاه السعال وهي تطوف به على الأطباء حتى تركها بعد عام ونصف العام يلبي أمر ربه ، تاركاً لها ثروة تكفيها ، وقد استطاعت هنادي بذكائها أن تصمد أمام رغبة اخوتها ورجوعها للبلد مرة أخرى ، وهي تتودد لأخوتها بالهدايا تارة ، وتارة بالتعلل بفض الاشتباك مع أولاد المرحوم وراحت تستغل الوقت لصالحها ، وهي تأبى أن تعود لم َ كانت عليه وتسجن ، راحت هنادي تعمل وتشق طريقاً أخر .... فأبت ألا تعود إلى ما كانت عليه في حياتها مع أهلها ، فاشترت محلاً عن طريق أحد السماسرة وجعلته مطعماً لبيع الكشري وقامت هي بإدارته والعمل فيه بيديها ، فهي طباخة وطاهية ماهرة وست بيت ممتازة وكما يقولون صاحبة نفس في الطبخ والطعام .. وها هي الآن تقف على قدميها شامخة غير مقيدة وذاع صيتها وعلا اسمها وأصبحت حديث الناس لكن هناك شيء بداخلها يناديها .. فهل تلبي هنادي النداء ؟...
    بقلم : سيد يوسف مرسي
    وعودة حميدة مع هنادي بإذن الله في فصل قادم

  2. #2
    الصورة الرمزية سيد يوسف مرسي قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 179
    المواضيع : 61
    الردود : 179
    المعدل اليومي : 0.06

    افتراضي

    هنادي
    الفصل الثاني
    اليوم غير الأيام التي سبقته ، شعور مختلف عند هنادي ، وهي تقف خلف البترينة ،
    يأخذها الخيال فتغيب عن وعيها ، تسبح في بحرها الذي لا ترى له شواطئ ، تتجلى
    الصورة في عينيها ويهدر الموج الضاحك ، ينتابها الخوف ترتد مذعورة وتخشى
    المصير المجهول ، يعيد إليها الوعي العامل المكلف بطلبات الزبائن ، إنها المرة الأولى
    التي تجد فيها نفسها بلا وعي ، شعور مغاير ، ودقات قلبها المتسارعة ، لقد باتت مؤرقة
    حتى أحست أن وسادتها اشتكت ، من كثرة نقلها وتقلبها تحت رأسها ، ذهبت إلى المرآة
    التي تقف على وجه الحائط ، كأنها تريد أن تحدثها عن نفسها ، تحكي لها عما يؤرقها ،
    تعرف يقينا أن المرآة حفظت كل ملامحها ، تعرف أن المرآة صادقة معها ، ولا تخبئ
    عنها شيئاً إذا قصدتها ، لم تضحك المرآة كعادتها لها ، وإنما وارت عنها ما لاحظته في
    عيونها ، لكنها أوحت إليها بشيء أخر ، طال وقفها أمام المرآة ، والبحر لا يتوقف
    عن الهدير وهي لا تجيد السباحة ، سمعت الكثير من القصص ، لكن وجدان هنادي
    باتت تشكو من العطش ، تحتاج من يرويها لها ، لماذا لا يسقط عليها الغيث ؟،
    لماذا لا يندي وجهها الندى ؟، تعود هنادي تقهقريا للوراء حين يصدمها الواقع ..
    كيف تنجو من المألوف عند القوم ؟،كلما نظرت وأرادت أن تدور برأسها لتجد منفذا ،
    اصطدمت بالعرف الأسود ورجاله الأشداء يلتفون حولها ، يحملون المدي والخناجر ،
    لا شيء يتم إلا بموافقة العرف ورجاله ، وأي تمرد سوف يقابل بطعنة خنجر أو
    رصاصة من بندقية غير مرخصة جاهزة لتجرب في هذه الحالات ، كانت هنادي تريد
    أن تجد لها منفذا تخرج منه وتنجو بنفسها ، وكلما أدارت وجهها وجدت أمامها أخيها
    عبد العزيز بنظراته الحادة وهو يأكل في شفتيه بأسنانه ، وطه بصوته العالي وتهوره ،
    واسماعيل التي كانت تظنه مختلفاً عنهم ،والذي بات داهية من الدواهي الكبيرة .
    أما زوجاتهم تعرف هنادي أنهم لا يختلفون عن إخوتها شيئاً ، فقد لاقت منهم الكثير
    قبل زواجها ، دائما ما تصف عايدة زوجة عبد العزيز بالسوسة ، فمن عادتها أن تنخر
    في السليم كي تفسده ، أما سمية التي تجرعت كل أنواع السموم وباتت كالحية ،
    لا يحلو لها إلا الزحف على الأرض واللدغ ، وبنت اللئام فاطمة التي رضعت لبن الذئاب
    وباتت كاللبؤة مفترسة ، والذي لا يعنيها إلا مصلحتها ، كيف تستطيع هنادي الخلاص
    أو التمرد ؟، تعلم هنادي يقينا أن أمرها في غاية الصعوبة ، فقد تأخذ لتكون ضحية بدون
    عيد أضحى ، وقد تصبح وجبة دسمة في وليمة بدون عُرس ، استطاعت هنادي أن
    تخلق هدنة أو تصنع بينها وبين إخوتها سلام هزيل .. كممت أفواههم وراحت تغدق عليهم
    بالكساء من حين لأخر وهي تحاول ارضائهم واسكاتهم عنها ، لكنها لا تعرف إلى أي مدى
    يستمر الوضع معها هكذا ؟....
    تذكرت هنادي وقد سقطت من مقلتيها دمعة حارة ، سمعت صوت اصطدامها بالأرض
    تذكرت أن النافذة التي كانت ترى بها الدنيا قد أقفلت ، لقد ماتت أمها التي كانت هنادي ترى
    من خلالها الدنيا ، وهي التي كانت تحميها من اخوتها وتدافع عنها ، تذكرت هنادي
    حينما كانت أمها تختلق الأعذار لتأخذها معها عند العوجة عند أخوالها ، ملفوفة بملاية
    من صابع قدمها حتى رأسها ، مسدله على وجهها طرحة أو لا ثمة وجهها بطرحة ،
    فتبطيء هنادي خطوتها خلف أمها لتكشف عن وجهها ، لتنعم ببعض الهواء البارد
    كي يلفح وجهها وتشم بعضاً من الهواء وهي تقول :الله .. الله على الهواء الطيب
    وكأنها تدهن بشرتها بهذا الهواء وتشربها إياه ، فتحس بالنضارة قد ملأتها ..
    تخشى أمها أن يكون أحدا قريبا منهم فيرى وجهها فيشي لأحد من أخوتها أو أبيها
    فتنال علقة ساخنة .. لقد تزوجت هنادي ممن هو في سن أبيها لتهرب لتنجو بنفسها ..
    لكن القدر جعلها بين فكي الرحى ، فهل تكرر هنادي ما فعلته حتى لا تعود للجحيم ؟
    وإلى فصل أخر مع هنادي
    بإذن الله تعالى

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    من عمق الواقع قدمت تلك الصورة الإجتماعية الموجودة في بعض قرى الصعيد
    قصة محكمة الفكرة، متقنة الحبك في تصوير الأعراف ومدي تحكمها في البنت
    بطمرها تحت حجاب كثيف يعتبر انتهاكا لطفولتها مما جعلها تقبل بالزوج الذي يكبرها
    بأربعين عاما فقط لتتخلص من سيطرة أخوتها عليها.
    نص عميق الفكرة، جميل الأسلوب وإن كان السرد يضعف أحيانا وتقع في التكرار..
    ولكنه يظل سردا شائقا ـ وسأنتظر معك بقية القصة.
    ولك تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي