ما يتفرعُ عن ازدواجية المخفى والمُعلن خطير وكارثى ، ولعل أهم ملفاته المسكوت عنها دون مراجعة وتصحيح هو الفجوة الهائلة بين الأتباع والقادة ؛ حيث لا تربط بين هؤلاء وأولئك غالباً الا عاطفة مشبوبة بالانبهار والولاء والطاعة ، دون عقل يفكر أو حماسة للقاء غرضه المناقشة والحوار ، فضلاً عن التحفظ والاعتراض والرفض .
المشهد يتكرر بسيناريوهات مختلفة ، وقد نُصدم بمستوى بعض القيادات الضحل ثقافياً وسياسياً ؛ فما ذنب الرسالة التى تُلصق بها حماقاتهم ، وماذا ارتكبه الوطن ليعانى من مغامراتهم الطائشة ، وما ذنبُ الأتباع والشباب الذين بايعوا قيادات غامضة على السمع والطاعة ، تماماً كما فى فتنة الصدام الأولى بين الثورة والاخوان وما ترتب عليها من تبعات جسيمة ، بسبب منشورات القيادة الهاربة التى كانت تكفر حركة الجيش وتحرض وتحشد وتشحن وتدعو للثورة والانقلاب ولم يراعوا دماء أتباعهم الذين يخضعون دون مراجعة ، كما يقول مؤرخ الاخوان محمود عبد الحليم لعبد القادر عودة فى خضم الأحداث الرهيبة : " ان دماء هؤلاء أمانة فى أعناقنا ، نحن الذين اختارونا قادة لهم ، يتلقون منا دون مناقشة ولا مراجعة ، فمن حقهم علينا أن نطلعهم على ما عندنا " .
لم يحدث ذات مرة أن أطلعوهم على ما عندهم ، ولم نرصد كعلامة بارزة ونموذج مكرر فى العلاقة بين القادة " الأتقياء " الغامضين والأتباع الأبرياء السُذج سوى الضررالفادح الذى يلحق بالقاعدة العريضة للتنظيم بسبب الاستخفاف بالأحداث والأرواح والمصائر والأوطان بلا مسئولية ولا خوف من مساءلة ومحاسبة .
التنظيم طارِد لمن يناقش ويشغل ماكينة عقله ولمن سارَ على درب المفكر الغزالى رحمه الله ، لأن طبيعته اعمال العقل مع العاطفة حتى مع حسن البنا نفسه ، وما البنا الا رجل يخطئ ويصيب ؛ وهكذا يصف الغزالى حاله مع البنا : " ولكنى – وهذه طبيعتى – كنت آخذ منه وأدع وأتبعه وأجادله ويرى منى الرضا والنقد " .
لعنَ الله من يبنى مجده على أشلاء العباد .. هكذا تحدث الغزالى وأفاض ، والتاريخ والأحداث والواقع وما وصلنا اليه خيرُ شاهد على أن العقلَ والنقدَ قد غابا عن واقع الحركة الاسلامية مع حضور طاغ للعاطفة وتقديس أعمى لقيادات كالأصنام الحية ، تأمر فتطاع .
يعالج الغزالى هذا المَرض ويفك تلك العُقد ، وعقدة الضعة تجعل صاحبها لا يكتفى بتخطى من هم أكفأ منه ، بل انه يسعد بتحطيمهم ويسر اذ يقدر على اقصائهم واطفائهم .
المسئولية مشتركة واللوم الأكبر على القطيع المُسير ؛ فحسن النية لا يشفع فى الاستجابة لأصحاب الأهواء ، ويجب ألا نقبل كلام غيرنا دون مناقشة وتدبر ، بل نجتهد فى الوصول الى الحق ، فاذا عرفناه عرفنا الرجال على ضوئه وصادقناهم أو خاصمناهم على أساسه .
المسلم الصادق هو الذى يعرف الرجال بالحق ، أما أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ويثقون فى أى كلام يُلقى اليهم لأنه صادر عن فلان أو فلان ، فهم أبعد الناس من فهم الاسلام ، بل هم آخر من يقدم للاسلام خيراً أو يحرز له نصراً .
وشباب اليوم كشباب الخمسينات والستينات لا يختلفون كثيراً ، اضطربت أفكارهم وأحكامهم حتى خيل الى بعضهم أن يزن الأمور بمدى رضاء القائد ومدى الولاء له .
الاسلام أغلى من أن يحملَ أوزار قيادات واهنة تستر ضعفها بالاستبداد ونكوصها بالمكر السيئ .
وشرف الدعوة العظيمة فى أنها صدى للاسلام وصورة كاملة لتعاليمه الراشدة .
وقد بُنى الاسلامُ على الوضوح والثقة والتعقل : " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " .. " انا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " .
وتلك نصيحة الناقد الخبير المفكر الأخيرة ، يقول رحمه الله : فارفض الغموض فى رسالتك واحذر قبول الريبة باسم السمع والطاعة ، فالطاعة فى المعروف .
أما القيادات فلابد من صدمتها بقوة لكى تفيق من سكرة الزعامة ؛ فهى مسئولة من قبل ومن بعد عن الخسائر التى أصابت الحركة الاسلامية فى هذا العصر وعن التهم الشنيعة التى توجه للاسلام من خصومه المتربصين ، فقد صورته على أنه نزوات فرد متحكم ، كما صورت الهيئات الاسلامية وكأنها تسودها الدسائس وتسيرها الأهواء .