غيرَ بَعيدٍ
عقارب الساعة تسير أسرع من سيارته نحو الثانية بعد الظهر، شمس صيف في أوجها ، وحرارة تجلد كل من تجرأ و كسر حظر التجول الذي فرضته على المدينة.
- هذا ما ينقصني ! أهذا وقت الأحمر ؟ تمتم بها برِمًا و هو يدوس الفرامل في حنق. التفت يمنة و يسرة، لا سيارات و لا راجلين و لا شرطي. هم أن ينفلت من لحظات انتظار ستكلفه الكثير مع مديره، لولا أن استرعى انتباهه صراخ آت من أحد الأزقة المتفرعة عن الشارع ، قبل أن يلمح فتاة مندفعة بكل قوتها نحو سيارته ، وقبل أن يرتد إليه طرفه لفت حول المركبة و وقفت بمحاذاته مرعوبة كأنها تفر من الموت ،وجهها يتقاطر عرقا ، تصرخ بشكل هستيري ، أنفاس متقطعة ، وصوت مبحوح لا يكاد يُبِينُ :
- أرجو...ك ........ ساعد .....ني ، صديقتي ، صديقتي ...في خط..........ر أتوسل إليك أسرع !
- ما الأمر ؟
ألقى بالسؤال دون أن يترجل من سيارته و الدهشة تسيطر عليه، لم يكن السؤال إلا محاولة منه لاستيعاب المشهد واستعادة التوازن.
- اعترضنا منحرف، يحمل سيفا كبيرا، أمسك بصديقتي..... يريد اصطحابها معه قسرا ! هناك عند المنعطف في نهاية الزقاق.... أرجوك تحرك ! افعل شيئا ! أنقذها !
نكص رأسه، ضغط دواسة البنزين، و انطلق بأقصى ما في استطاعة سيارته، كأنما ليهرب من الموقف، مخلفا وراءه سحابة دخان حالت بينه و بين الفتاة.
- اللهم الطف بنا ! ما هذا الحظ ؟ لماذا أنا ؟ تكفيني مشاكلي و هذا المدير الذي يتربص بي. ثم ما أدراني أنها صادقة ؟ لا بد أنه كمين نصب لي ، حسن فعلت أن تصرفت بعقلي و ليس بعاطفتي. وفوق كل هذا أنا لست رجل أمن، و لا قبل لي بالمجرمين ! سيف !!! و أولادي !؟؟ لمن أتركهم ؟؟؟ فلتخطئني المصائب و لتسقط بعيدا عني.
عند مدخل الإدارة، المدير منتصب القامة، ينظر كعادته إلى ساعته كلما وصل موظف. مر بجانبه ، ألقى عليه التحية دون أن يسمع لها ردا و دون أن يتجرأ على النظر في وجهه.
- ليس المهم أن يرد التحية، المهم أن يمسك عني لسانه السليط.
على مكتبه تكدست الملفات، منها ما قُضِي فيها، ومنها ما ينتظر منذ أسابيع.
- " تبا لهذا العمل الذي لا ينتهي ! نحن نكد صباح مساء، وهم يتأنقون، يرتدون ربطات العنق ، و يركبون السيارات الفاخرة و يوقعون ".
مضت أكثر من ساعة على التحاقه بمكتبه، ومازالت عبارات السخط و التأفف لم تنقض، بل إن لهيبها يتأجج كلما أنهى ملفا و فتح آخر. لهيب تمنى لو يشب في تلك الملفات، و المكتب و الإدارة بأكملها.
نهض عن كرسيه يبغي اقتناص استراحة في الخارج في غفلة من رئيس القسم ، لكن رنين هاتف مكتبه أفسد عليه الأمر و حال بينه وبين الباب و أعاده أكثر سخطا إلى مكانه ، الرنين يستمر وهو يلعن اليوم الذي اخترع فيه الهاتف قبل أن يتناول السماعة في حنق :
- ألو ! من معي ؟
ودون مقدمات اندفع الصوت منتحبا: ابنتي !! ابنتي يا مراد !! وحيدتي ستضيع مني.....
- أختي سعاد ؟؟؟ ما الأمر ؟ اهدئي و أخبريني ماذا حدث ؟؟؟
.....................
أصغى لحظات ثم أرخى سماعة الهاتف و تهاوى على الكرسي ممسكا رأسه ، شعر بدوار . أغمض عينيه فانقشعت سحابة الدخان، وعاد صوت الفتاة يزلزل كيانه و يصم أذنيه.